ترجمة: أحمد رباص المقال الأصلي: http://encyclo-philo.fr/husserl-a/ فيما يلي الجزء التاسع من الترجمة: 6- بنية الوعي أ- وضع ا...
ترجمة: أحمد رباص
المقال الأصلي: http://encyclo-philo.fr/husserl-a/
فيما يلي الجزء التاسع من الترجمة:
6- بنية الوعي
أ- وضع الوعي
منذ أعماله الأولى حول الأفعال العقلية إلى تأسيس تمثلات حسابية أولية وحتى أعماله الأخيرة التي تناولت مسألة البيذاتية، أعاد هوسرل بشكل منتظم تعريف وضع الوعي باعتباره الهدف الوحيد لتحليلاته الوصفية.
ظل الأمر، إلى حد اللحظة التي صدرت فيها "المباحث المنطقية" وقبل إدخال الاختزال الفينومينولوجي، يتعلق أساسا بدراسة التجارب المعاشة القصدية كأفعال عقلية؛ ذلك هو العقل الذي كان موضوع البسيكولوجيا الوصفية الموروثة عن برنتانو وستومبف. ومع ذلك، بواسطة الاختزال الفينومينولوجي، صارت حقيقة الأفعال معلقة، "موضوعة بين قوسين"، في نفس منزلة حقيقة محتوياتها؛ لا ينظر إلى المحتويات والتجارب المعاشة إلا من حيث أنها تظهر، من كونها ظواهر. إذن يصبح موضوع الفينومينولوجيا هو الوعي المنظور إليه كهذه البنية من التجليات التي ما زال وضعها الأنطولوجي غير محدد.
بواسطة الاختزال الفينومينولوجي، تعلن أيضا عن ذاتها المثالية المتعالية لدى هوسرل (انظرقسم [5.د] )، التي تعود بتيار الوعي إلى ذات تحس على نحو سلبي بمكوناته الهيولانية وتنجز بهمة ونشاط مكوناته التفكرية. طبقا لتقليد تجريبي معين، أكدت "المباحث المنطقية" على أن "الأنا" لا توجد قبل تيار التجارب المعاشية (ولا تشكل أساسها)، إنما تتشكل في ذاتها كأحد الأشياء المتمثلة من قبل هذه التجارب المعاشة. بعودته إلى هذا القول بعد المنعطف الترنسندنتالي، خلص هوسرل إلى اعتبار أن الأنا هي الذات التي تتمثل، أن التجارب المعاشة للوعي هي تجاربها وأن المحتويات المتمثلة مرتبطة تماما بأفعالها التمثلية - مصطلح « noème » يشهد من جهة أخرى على تبعيتها تجاه النشاط القصدي (noèse) للذات المتعالية التي تحكم تشكلها.
في هذا المنظور، يُمنَى الوعي بخاصيات ديكارتية وكانتية في وقت واحد. الاختزال الفينومينولوجي هو، في الواقع، اختزال إلى دائرة الوعي الأناني: فإلى تجاربي المعاشة وإلى المحتويات التي تحضر فيها يتعين الرجوع عندما، أعلق، منهجيا، من باب أولى، مسألة حقيقة ما يظهر لي. في دروسه التي ألقاها في ربيع 1907 حول "فكرة الفينومينولوجيا"، لم يستنكف هوسرل عن ربط هذا التمشي بالشك الديكارتي، الذي يضع بشكل جذري حقيقة العالم الممثل موضع سؤال، لكنه ينتهي الى التيقن من هذه الدائرة من المعطيات المطلقة التي هي تجاربي المعاشة وطريقتها في تقديم بعض المحتويات (انظر القسم [5 ب]). سوف تلح "الأفكار التوجيهية" لعام 1913 ودروس باريس لسنة 1929 (التي نُشرت بعد عامين تحت عنوان "التأملات الديكارتية") مرة أخرى على هذا النموذج الديكارتي، الذي أعطي للمشروع الهوسرلي انعطافة أكثر مثالية.
لكن استبدال الأنا المتعالية بالعقل (باعتباره"طبيعة بشرية") يدير، أيضًا وقبل كل شيء، ظهر المجن لهيوم لأجل تبني وجهة نظر كانط. إن الذات التي يجب أن تكون محور اهتمامات نظرية المعرفة هي الذات المتعالية، الذات في وظيفتها التشكيلية، وليس الذات التجريبية، أي الذات المفهومة على أنها جزء من العالم والتي هي بالتالي موضوعة خارج المدار من قبل الاختزال. بينما تكون الذات التجريبية الأخيرة "محددة"، خاضعة لتأثير الأسباب والأهواء، تكون الذات المتعالية حرة ومستقلة، حتى تكون مسؤولة تجاه متطلبات العقل النظري والأخلاق. وبصرف النظر عن تأثير الكانطية الجديدة، فإن هذا التموضع الجديد لـهوسرل يمكن أن يُفسَّر أيضًا على نحو باطني باهتمامه العقلاني، الذي قاده بالفعل إلى محاربة النزعة البسيكولوجية على مستوى المحتويات. في العمق، وهو يحارب في هذه المرة النزعة البسيكولوجية على مستوى التجارب الحية، هل يندرج الدور المتعالي ضمن استمرارية المنعطف اللابسيكولوجي، الذي يكمله ويعززه: إذا كانت محتوياته مُنظمة بعقلانية منطقية مستقلة عن قوانين الأداء الفعلي للجهاز النفسي البشري، من المناسب إيجاد نظير ذاتي في شكل مثيل لا تكون وظائفه آليات طبيعية، بل بنيات متعالية للوعي تكون قادرة على التوافق مع هذه العقلانية. ولأنه، بدوره، يريد إجراء نقد للعقل الخالص (بدلاً من مقالة ذات طبيعة إنسانية)، اختار هوسرل مثل كانط نظرية الوعي الخالص بدلاً من بسيكولوجيا تجريبية.
بعد "الأفكار التوجيهية"، سيحاول هوسرل تجاوز النزعة الأناوحدية المحتملة التي تسجن فيها المثالية المتعالية. ويصر على كون المحتويات الحاضرة في تجارب الوعي المعاشة ليست فقط متعالبة عليه من حيث أنها يمكن أن تعاود الظهور في العديد من التجارب المختلفة، ولكن أيضًا من حيث أنه يمكن لها أن تظهر في تجارب ذوات أخرى؛ خلافا للتجارب المعاشة، تكون المحتويات "موضوعية" بقدر ما هي مشتركة، بيذاتية. المحتويات التي تظهر لوعيي في كثير من الأحيان تبدو له وكأنها تحمل بالفعل معنى ما كنت أنا بالذات من منحه لها، لكنها تحمل مقاصد الدلالة لذوات أخرى سابقة أو معاصرة لي. أن تكون هذه البيذاتية ممكنة حتى في النظام الفينومينولوجي، أي بعدما جرى الاختزال إلى الدائرة الأنانية، فذاك ما تعين على هورسل تفسيره بوضوح، وكرس له العديد من النصوص التي يرجع تاريخ أقدمها إلى فترة غوتنغن (انظر على وجه الخصوص هوسرليات، الأجزاء: الثالث عشر، الرابع عشر، الخامس عشر). نتج عن كل هذا العمل مفهوم جديد للوعي، مفهوم يراه، طبقا لارث لايبنيزي معين، عبارة عن مناد "monade"، وجهة نظر معينة إلى العالم، لكنها وجهة نظر تعكس في حد ذاتها جزءا من وجهات النظر الأخرى.
(يتبع)
التعليقات