تصورُوا فقط ، أن حياتكم بتفاصيلها الحميمية الدقيقة ، الجِدِّية منها والتافهة ، تَمُرُّ كشريط مصور ومسموع ، بالعرضِ البطيء ، وباللقطات ...
تصورُوا فقط ، أن حياتكم بتفاصيلها الحميمية الدقيقة ، الجِدِّية منها والتافهة ، تَمُرُّ كشريط مصور ومسموع ، بالعرضِ البطيء ، وباللقطات المقرَّبة والبعيدة ، داخل غرفة للمراقبة ..
تصوروا حجم المأساة! ، حين تكتشفون أنكم كُنتُم تحت عين كاميرا شريرة ، وانكم كُنتُم مكشوفين، حتى وإن كُنتُم قد أغلقتم الباب خلفكم بإحكام ..
حتى وإن كُنتُم قد أطفئتم النور ..
حتى وأنتم وحيدون ، تناجون الله الرحيم الستَّار، و الذي كُنتُم تظنون أنه الوحيد القادر على رؤيتكم ..
تصوروا ! أنكم في مرمى بصر كاميرات الرصد أينما وليتم وجهكم ، حتى وأنتم تتسترون على دمعة متدفقة و تديرون وجهكم للحائط ..
حتى وأنتم عراة ، ومطمئنون على سرير الفحص عند طبيبكم الذي أدى قسم أبقراط بأن يحفظ أسرار جسدكم الضعيف..
تصوروا ! أنهم كانوا يشاهدون كل شيء ، يشاهدون عريكم وأنتم تغتسلون..
وأنتم تقضون حاجاتكم البيولوجية ..
وأنتم تُقَبِّلون من تحبُّون..
وأنتم في عزلتكم المشتهاة ..
وأنتم ....
تصوروا ! حتى و أنتم واثقون بأنكم دفنتم ماضيكم البئيس ، وبدأتم حياة جديدة ، وحذفتم صوركم القبيحة من الذاكرة ، والله الجميل الثواَّب سامحكم ، اكتشفتم ان صور الماضي مسجلة برقم ترتيبي في شريط محفوظ بعناية شديدة في رفوف غرفة مراقبة" الأخ الأكبر " .
تصورُوا!!
كانوا يلتقطون نبض قلبكم ، حتى وأنتم تتكتمون على عشقكم او حزنكم ، نعم حتى في اعماقكم كانوا يزرعون كاميرا خفية في شرايينكم تصور تدفق الدم والدمع بتقنية 4D..
تصور !
لقد التقطوا ركعتك الاخيرة في الفجر ، وسجلوا رعشة يديك وهي تستسلم لغواية كأس أخرى ، سجلوا جنونك مع من تحب ، سجلوا دعاءك بأن بحفظ الله البلد ،وحتى سخطك وانت تلعن النظام ، كانوا معك كظلك ، بل كانوا ظلك ، وصورا ظل الظل ..
تصوروا فقط !
أن نكون طيلة الْيَوْمَ تحت أجهزة الرصد كأبطال فوق العادة في برنامج "تلفزيون الواقع" ، أمام عيون لجنة تحكيم غير مرئيّة تتفرج بسادية وقسوة على حميميتنا وعاداتنا السرية - التي كُنا نظن أنها سرية -...
تصوروا درجة الفضيحة!
ونحن لا نعرف وجوه من يشاهدوننا ، و علينا ان نسير في الشارع مُحرجين ومرتابين من نظرات الآخرين ، فكل الآخرين موضع شك وريبة ، وكل الآخرين قد يكون من بينهم مُصورون أو مُوضبون او فنيون يشتغلون في غرفة اجهزة الرصد ، وكل الآخرين قد يكون من بينهم من شاهد عُرْينا و اغتصب حميميتنا ونحن عُزَّل وفاقدو الإرادة وغير قادرين على ستر عورتنا .
حاول فقط ان تتخيل هول المشهد ، أعد رؤية مشاهد يومك بتفاصيله المملة ، كما عشتها بعفويتك الانسانية الطبيعية ، تفرج على نفسك ، دقق النظر جيدا ...
أرأيت هول المأساة ! ودرجة القسوة!وحجم الاهانة ! ،
إنهم يغتصبوننا كل ثانية حين يقتحمون خصوصيتنا ، ويتفرجون على عرينا على "بوديوم "الحياة القاسية ، بدون إخبارنا مسبقا كي نبدو مرتبين ، وبدون ان يواجهوننا بشجاعة ووجه مكشوف كي ننال على الأقل شرف المقاومة .
أي اغتصاب أقسى من الآخر ؟؟..
اغتصاب الجسد ؟ ، أم اغتصاب الروح ؟
أي انتهاك نبكي ؟
انتهاك فرد لحرمة جسد وكرامة فرد آخر ،كحادث معزول ،ويمكن ان يحدث في أي مكان ،ويمكن معاقبة مرتكبه؟ ، أم الانتهاك المهين والتعسفي لحقنا الجماعي في الخصوصية ؟.
من المغتصب الأكثر خطورة ؟
مغتصب بوجه مكشوف ، قادرون وقادرات على فضحه و إخضاعه للقانون ؟؟..أم مغتصبون فوق القانون ، بأقنعة تنكرية ، وبسادية مرضية ، يتلذذون بنهش خصوصيتنا خلف شاشات الرصد ؟؟.
خفقة قلب:
زملائي وزميلاتي في جريدة اخبار الْيَوْمَ ، قلبي معكم ، وغضبي لا حدود له ضد كل من جعل منكم "كومبارس " دون علمكم في فيلم فضائحي ..لا املك الكلمات امام بلاغة صمتكم الكئيب .
التعليقات