نعوم تشومسكي.. وأزمة التعليم في بلادنا - سيد محمد*

بمجرد سماع اسمه تتشكل في ذهني صورة مختلفة تمامًا عن اسم أي شخص آخر تأتي صورته النمطية إلى مخيلتي، أراه أكبر من الحجم البشري الطبيعي، أ...

بمجرد سماع اسمه تتشكل في ذهني صورة مختلفة تمامًا عن اسم أي شخص آخر تأتي صورته النمطية إلى مخيلتي، أراه أكبر من الحجم البشري الطبيعي، أراه ماردًا عملاقًا، وأحيانًا يخيل لي أني أرى وجهه محفورًا على قمة شاهقة تمامًا كوجوه راشمور، يمر اسمه بذاكرتي؛ فينهال عليها حشد من ألقابه وإنجازاته؛ فهو المحاضر أستاذ اللسانيات وعالم الإدراك وعالم المنطق والمفكر الفيلسوف والمؤرخ والناقد السياسي والاجتماعي والناشط السياسي، هو الإنسان الحي الوحيد الذي يعتبر المرجع الأكثر استشهادًا به، هو بلا شك المثقف الأبرز في عالمنا الحاضر.

إفرام نعوم تُشُومِسْكِي الذي يبلغ من العمر الآن 88 ربيعًا المولود عام 1928 في فيلادلفيا بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية، لأسرة يهودية فقيرة مهاجرة من أوكرانيا التابعة للإمبراطورية الروسية حينها، نشأ تشومسكي في بيت يهتم بالعلم والثقافة، فقد كان والداه متعلمين تعليمًا جيدًا، قبل وصولهما إلى الولايات المتحدة، فقد كان والده من أبرز المتخصصين في اللغة العبرية، لذلك كان الجو الاجتماعي حافزًا على حث ملكته اللغوية، وتوجيه اهتمامه إلى التفكير في المسائل والآراء التي كانت تتداول أمامه.

وكان قارئًا نهمًا لكل ما تقع عليه يداه، ومن ذلك تروي صديقة لأسرته أنها في زيارة للأسرة سألته، وهو في سن السابعة من عمره، وأشارت إلى دائرة المعارف المسماة Compton’s Encyclopedia التي تتألف من عدد من المجلدات الضخمة وكانت إجابة تشومسكي الصاعقة، أنه قرأ نصفها!

درس تشومسكي في جامعة بنسيلفينيا بداية من عام 1945 بعد تخرجه من المدرسة الثانوية فحصل على البكالوريوس في الفلسفة واللسانيات عام 1949. ثم حصل على الماجستير، ثم الدكتوراة في اللغويات من نفس الجامعة عام 1955. شغل بعد ذلك العديد من المناصب الأكاديمية، لا مجال هنا لذكرها. لكن تجدر الإشارة إلى قدرته غير المألوفة على العمل لساعات طويلة دون كلل أو ملل، فما يعرفه المقربون منه أنه لا ينام إلا أربع ساعات في اليوم، كما أنه لا يعرف معنى للإجازة التي يعرفها الناس، بل إن الإجازة في عرفه لا تعدو سوى إنقاص العمل من عشر ساعات في اليوم إلى ثمان.

هذه الطاقة الفائقة وهذا الحماس المتقد مكنه من إنجاز عدد هائل من الكتب والمقالات والأبحاث القيَّمة في مختلف الموضوعات في زمن قياسي، فقد نشر أكثر من مائة كتاب وذكر الكاتب روبرت بارسكي عام 1997 أيضًا أن نعوم تشومسكي كان قد نشر حينها أكثر من ألف مقالة في اللسانيات والفلسفة والسياسة وعلوم المعرفة وعلم النفس، بالطبع الآن تجاوز هذا العدد كثيرًا.

حقق تشومسكي العديد من الإنجازات ورصيده العلمي والأكاديمي حافل بالنجاحات التي سيكون من الصعب حصرها.

لكن لماذا تشومسكي تحديدًا؟

لسببين: أولهما، أن أمثاله يستحقون أن يعرفهم الجميع، هذا المفكر الفذ المُلهم المناضل السائر عكس التيار. كرس حياته للعلم والمعرفة مدافعًا عن الحريات، وعما يراه ظلمًا وجورًا على حقوق الآخرين، أراه إلى جانب جورج غالاوي السيناتور السابق في مجلس العموم البريطاني من أهم الشخصيات وأكثرها ثقلًا التي دافعت عن القضية الفلسطينية على سبيل المثال.

والسبب الثاني، إنه من المعروف أن تشومسكي حصل على تعليمه الأساسي من مدرسة تدعى أوك لين كونتري دي، وهي مؤسسة مستقلة توصف بأنها تركز على السماح لطلابها للبحث عن اهتماماتهم في جو غير تنافسي، هذا النوع من التعليم الذي نفتقده في بلادنا الآن يطبق في الولايات المتحدة الأمريكية منذ ثلاثينات القرن الماضي، لك أن تتخيل ذلك!

لذلك بزغ نجم أمثال تشومسكي، هذه المدرسة التي زرعت نواة التحرر من قيود الروتين الدراسي كانت بداية تكوين هذه العقلية الناقدة والمحللة، فكتب أول مقال له وهو بسن العاشرة عن انتشار الفاشية بعد سقوط برشلونة في الحرب الأهلية الأسبانية. هذا يدفعني لسؤال يبدو سطحي، لكنه فضولي بالنسبة لي، هل هذا المفكر الفذ الذي يصنف على أنه كأكثر ثامن مرجع في التاريخ البشري موجود كمادة دراسية في مناهج التعليم الأساسي في بلادنا؟

دائمًا يتناهى إلى ذهني أسئلة على هذا الغرار : لماذا يجب أن لا نسمع عن أسماء مثل : ديكارت وكانط وبيكون و وهيجل وشوبنهار وكيركيغارد ونيتشه وسارتر وكامو، إلا إذا أجبرنا التنسيق على دخول كلية الآداب قسم فلسفة؟!

أو لماذا يجب أن لا نعلم شيئًا عن شخصيات مثل: جان جاك روسو وجون لوك وجون إستيورت ميل وتشومسكي وهنري كيسنجر، إلا إذا أجبرنا التنسيق على دخول كلية كالعلوم السياسية؟!

لماذا لم يسمع الغالبية العظمى من الطلاب العرب يومًا عن مفكر عربي مرموق كإدوارد سعيد؟

لماذا كل ما عرفناه عن تسلا أنه وحدة قياس، ولماذا يُسطح تداول نظريات علمية كالتطور؟!

هل تدُرس الفيزياء الفلكية والنانو تكنولوجي في بلادنا؟!

لماذا نتخرج من جامعاتنا بعقول فارغة، ولماذا تختلف متطلبات سوق العمل عن كل ما درسناه؟!

مئات الاسئلة التي لا تجد لها أجابة، هناك مقولة شهيرة لتشومسكي تقول: التعليم ما هو إلا نظام لفرض الجهل، وهو يتحدث في المطلق عن قيود التعليم الدراسي والأنماط الدراسية الموضوعة في قوالب تفرغ هدف التعلم من مضمونه، فماذا بربك عن نظام تعليم متهالك بدولة كمصر احتلت المركز الأخير في مؤشر جودة التعليم الذي يرى تشومسكي أن أفضله جودة يفرض جهلًا؟!

*سيد محمد

كاتب ومدون مصري