الفكرة ليست جديدة، فهي مطروحة منذ فترة من الزمن. وهناك اليوم نقاش خافت بين الإسرائيليين والفلسطينيين حول هذا الطرح كآخر حل في حال فشلت ك...
الفكرة ليست جديدة، فهي مطروحة منذ فترة من الزمن. وهناك اليوم نقاش خافت بين الإسرائيليين والفلسطينيين حول هذا الطرح كآخر حل في حال فشلت كل الحلول التي طرحت حتى الآن. المشكل أن اليمين المتطرف في إسرائيل والحركة الوطنية الفلسطينية بكل أطيافها ترفضان مجرد الحديث عن هذا الحل. وفي هذا فقط يلتقيان.
لكن، قبل مناقشة هذا الحل الذي يعتبره البعض "خيانة" في الجانب الفلسطيني، و"انتحارا" بالنسبة لليمين الإسرائيلي. لنلقى نظرة على خارطة المنطقة الجيوستراتيجية اليوم. فالقضية الفلسطينية لم تعد تثار إلا في مناسبات رسمية من باب رفع الحرج، كما حصل مؤخرا في القمة العربية بالبحر الميت في الأردن. والبيان الختامي لهذه القمة لم يأت بجديد فيما يتعلق بهذه القضية، لكنه تحدث لأول مرة عن مفهوم "المصالحة التاريخية" التي يٌقصد من ورائها مصالحة بين إسرائيل والدول العربية لإنهاء حالة الحرب والعداء بينهما الذي استمر أكثر من ستة عقود.
فماذا عن المصالحة الأخرى بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني؟ إن مفهوم المصالحة يمكن أن يكون مدخلا للنقاش هنا، على اعتبار أن المصالحة كمشروع مجتمعي طويل الأمد تعني التوصل إلى توافق وطني لتقريب وجهات النظر وتجاوز أسباب التفرقة في الماضي وتصحيح الأخطاء لتجاوزها وعدم تكرارها في المستقبل.
وبالنسبة لقضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وبالنظر إلى تناقضاته والاكراهات الداخلية والخارجية المحيطة به، ووصول كل الحلول المفترضة التي جربت حتى الآن إلى الباب المسدود، فإن كل شروط المصالحة التاريخية باتت تفرض اليوم نفسها على طرفي النزاع الرئيسيين لحثهما على العمل المشترك نحو تجاوز مآسي الماضي وتصحيح ما ترتب عنها من ظلم مع ضمان عدم تكرارها في المستقبل.
على أرض الواقع فإن اسرائيل تسيطر اليوم على 85% من أراضي فلسطين التاريخية، بينما لا يشغل الفلسطينيون سوى 15% من أرضهم التاريخية، أغلبها مازالت واقعة تحت الاحتلال ومقسمة إلى عدة مناطق معزولة. ومع ذلك فإن نسبة الفلسطينيين تعادل 48% من إجمالي السكان في فلسطين التاريخية. وحتى في الجزء المسمى أراضي السلطة الفلسطينية فهي مجزأة إلى "كانتونات" تفرق بينها المستوطنات الإسرائيلية التي تضم اليوم 600 ألف مستوطن إسرائيلي دون احتساب 200 ألف مستوطن آخر في القدس الشرقية التي تعتبرها السلطة الفلسطينية عاصمتها التاريخية في حال قيام دولتها المستقلة.
هذا الوضع ليس وليد اليوم، فهو يتفاقم منذ حرب 1967، وكلما طال الزمن إلا وازداد تعقيدا وصعوبة. ففيما كان في الماضي يعتبر الحديث عن عودة اللاجئين الفلسطينيين عقدة كل حل لقضيتهم، فقد حول الإسرائيليون مستقبل المستوطنين ومستوطناتهم إلى عقدة المنشار الجديدة في كل تسوية مستقبلية بينهم وبين الفلسطينيين.
إن هذا الواقع الجغرافي والديمغرافي الجديد يجعل حل الدولتين، الذي تحول إلى مبرر لتجزئة أو ربح الوقت، حسب الموقع والموقف من الصراع، غير قابل للحياة على أرض الواقع، لأن الدولة الفلسطينية، في حال قيامها ستكون عبارة عن جزر صغيرة متفرقة على رقعة أصغر بلا سيادة وبدون شريان للحياة غير ما تسمح لهم به الدولة الإسرائيلية التي ستحكم الخناق على سكان هذه "الكانتونات" من جميع النواحي برا وجوا وبحرا، تماما كما يحصل اليوم.
يضاف إلى ذلك عدم وجود إرادة سياسية حقيقية لدى الجانب الإسرائيلي الذي ظل يماطل كل حل قد يوصل إلى حل الدولتين، وذلك منذ "اتفاقات أوسلو" قبل ربع قرن ونيِّف. لماذا لا يُفتح، إذن، النقاش حول حل الدولة الموحدة، مع العلم أن هذا المفهوم ليس جديدا فقد سبق أن طرحه مفكرون من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني قبل أن ترتفع أصوات التعصب بكل أنواعه الديني والوطني من الجانبين لتخوين كل من يناقش هذه الفكرة واتهامه بالتنازل والاستسلام والخذلان إذا كان فلسطينيا أو عربيا، وبالعمالة وتدمير مشروع الدولة اليهودي من الداخل إذا كان إسرائيليا أو غربيا.
اليوم، ثمة كل العناصر التي تجعل الحديث عن حل "الدولة الواحدة أو الموحدة" موضوعا آنيا للنقاش. فعنصرية المشروع الصهيوني تزداد وضوحا يوما بعد يوم، وهذه العنصرية لا تطال فقط فلسطيني الأراضي المحتلة وإنما تستهدف أيضا وبالدرجة الأولى الفلسطينيون الإسرائيليون، أي فلسطينيي الداخل. وقد آن الأوان بالنسبة للسلطة الفلسطينية الحاملة لمشروع قيام الدولة الفلسطينية الوطنية، ولكل حركات المقاومة المسلحة للاعتراف بأن أساليب عملهم قد وصلت إلى الباب المسدود.
الدولة الإسرائيلية تخشى اليوم شيئا واحدا، يمثل بالنسبة لها كابوسا في حال تحققه، آلا وهو إعلان السلطة الفلسطينية حل نفسها، وطرح الفلسطينيين حل الدولة الموحدة، لأنها في هذه الحالة ستجد نفسها عارية أمام العالم، وستصبح إيديولوجيتها الصهيونية العنصرية في مواجهة مع العالم وليس فقط مع الفلسطينيين كما يحدث اليوم.
إن جوهر الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في عمقه هو صراح أيديولوجي، لأن سكان فلسطين التاريخية مسلمين ويهود ومسيحيين عرفوا كيف يتعايشوا منذ غابر الأزمان فوق نفس الرقعة الأرضية.
الصراع اليوم هو بين أيديولوجية عنصرية اسمها الصهيونية، وإضفاء البعد القومي والوطني والعقائدي على هذا الصراع، الذي يعتبر أصل كل المشاكل التي تعصف بالمنطقة منذ ستة عقود، إنما يغطي على بشاعة الأيديولوجية العنصرية الصهيونية، وقد آن الأوان لتعريتها، وإعادة إحياء النقاش حول حل الدولة الواحدة هو بداية كشف حقيقة جوهر الصراع لدفنه إيذانا بعصر جديد يمهد لتسوية تقوم على دولة موحدة يتعايش فيها المسلمون واليهود والمسيحيون على أساس: فرد واحد وصوت واحد.
التعليقات