تلقيت منذ ساعات نبأ وفاة جون برجر، الناقد الادبي والفني والراوي والشاعر البريطاني الماركسي الخلاق والحرّ. أبكي في جون الصداقة والموهبة...
تلقيت منذ ساعات نبأ وفاة جون برجر، الناقد الادبي والفني والراوي والشاعر البريطاني الماركسي الخلاق والحرّ. أبكي في جون الصداقة والموهبة والقلب الكبير.
تعرفت الى كتابات برجر وانا بعد على مقاعد الدراسة. وانا اقرأه واستلهمه منذ ذلك الحين. وتعرفت الى جون شخصيا أواسط الثمانينات في باريس فأجريت معه مقابلة مطولة لمجلة «الكرمل» التي كان يرأس تحريرها الصديق محمود درويش. وترجمت له مختارات من كتاباته الى العربية صدرت العام ١٩٩٠ بعنوان «وجهات في النظر».
و«وجهات في النظر» هو ايضا عنوان مسلسل شهير لجون على تلفزيون البي بي سي البريطاني، صدر لاحقاً في كتيّب يشكل المرجع الاكيد لمن يريد ان يعرف شيئا عن الفن الحديث. بعد ان نال جائزة بوكر على روايته «ج»، وتبرّع بها الى «الفهود السود» الاميركيين، غادر جون لندن ليعيش باقي حياته في قرية جردية نائية في جبال الالب الفرنسية، يستأجر بيتاً من احد الفلاحين ويفيه ايجاره بالمساعدة في الاعباء الزراعية والرعوية. من وحي تلك الحياة كتب برجر ثلاثيته الرائعة عن ملحمة الحياة الفلاحية في العالم الحديث. وجون الذي «يخفق قلبه مع أبعد نجم في السماء» على حد تعبير ناظم حكمت، احد شعرائه المفضّلين، قضى العمر نصيرا وشريكا فاعلا في كل نضالات شعوب العالم الثالث وحركاتها التقدمية واليسارية.
بغياب جون برجر أفقد صديقا كبيرا ومعلّماً ملهِماً غيّر نظرتي للعالم. مع جون برجر اكتشفت كيف يمكن للعين ان تتلقّن ثقافة النظر، ان تتعلم كيف تلتقط كل ما هو حميم ورهيف وجميل لأنه ناتج عن كدح الانسان وتوقه للحرية والفرح والمساواة. والاهم تعلّمتُ من جون كيف يمكن للعين ان تقشع البداهة التي تتآمرعلى حجبها قوى الامر الواقع، خلف كل انواع الحيل والنفاق والخداع والقمع والتوريات.
العام ٢٠٠٦ ارسل لي رسمة بعنوان «غيرنيكا قانا» يدين بها الغزو الاسرائيلي للبنان. وفي العام الذي تلاه، زرته مع العائلة في الضاحية الباريسية عند الصديقة نييلا بييلسكي. ومنذ تأسيس «بدايات» وهو يرسل لي كتاباته المذهلة عن رندا مداح، الفنانة الجولانية، او عن العلاقة بين الاغنية والجسد، من وحي غناء ياسمين حمدان، اوعن فن السقوط عند شارلي شابلن، المهرّج الفيلسوف ذاك الذي لا يسقط الا لينتصب من جديد على رجليه إنسانا جديدا.
ما رآه برجر في شابلن هو صورته عن نفسه وهو ايضا صورته عن مستقبل الانسان. بغياب جون برجر يفقد العالم انسانا كبيرا ومنتجا ثقافيا خلاقا ومورداً لا ينضب من الزخم والعناد والامل.
ظل جون برجر يكتب ويصوّر ويناضل حتى الرمق الاخير ضد ما يسمّيه «هزيمة العالم الكبرى» تحت وطأة العولمة النيوليبرالية، وصاغ ردّه عليها بوحي مما اكتشفه من صمود ومقاومة عند الشعب الفلسطيني: «اليأس الذي لا يُهْزَم».
من غير برجر يفكّر في ان يهدي المقاومين الفلسطينيين الكونشرتو الخامس لبيتهوفن؟
*https://www.facebook.com/fawwaz.traboulsi/posts/1260036717415938
التعليقات