تضاربت التصريحات في الفترة الأخيرة في وصف طبيعة الأزمة السياسية التي يعيشها المغرب منذ انتخابات 7 أكتوبر الماضي. فالبلاد تعيش منذ شهرين ...
تضاربت التصريحات في الفترة الأخيرة في وصف طبيعة الأزمة السياسية التي يعيشها المغرب منذ انتخابات 7 أكتوبر الماضي. فالبلاد تعيش منذ شهرين ونيف شبه معطلة بلا حكومة وبلا برلمان، رغم وجود برلمان منتخب ورئيس حكومة معين. وإذا كانت مظاهر الأزمة بادية للعيان ولا تحتاج إلى تشخيص إلا أن الخلاف يكمن حول تسميتها، هل هي أزمة سياسية كما يدعي خصوم رئيس الحكومة المعين، لإلقاء اللوم عليه وتحميله مسؤولية تعطيل مسار البلاد؟ أم إنها أزمة دستورية كما يذهب بعض خبراء القانون الدستوري؟ أم إنها أزمة "شعورية"، كما وصفها سعد الين العثماني، الرجل الثاني في حزب رئيس الحكومة المعين؟ ولا أعرف ما الذي يقصده العثماني، وهو طبيب نفسي، بهذا المصلح الجديد الذي يريد أن يقحمه عنوة إلى علم السياسة!
المفارقة أن تسمية الأزمة الحالية بأنها "أزمة سياسية" يستعمله أشخاص مقربون أو يسعون إلى التقرب من النظام، وتتداوله الأحزاب التي توصف بـ "الإدارية"، ويجد صداه في وسائل إعلام تابعة أو تسعى إلى تقديم خدماتها للنظام، في حين أن هذا التوصيف كانت تستعمله المعارضات السابقة للنظام في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وكان يؤدي بأصحابه إلى غياهب السجون أو بٌعد المنافي. ومن يعود إلى أدبيات اليسار المغربي في العقود الأربعة الأولى من استقلال المغرب سيجد تنظيرا كثيرا حول هذا المفهوم الذي يستعمله اليوم الكثيرون بسهولة وبدون خلفيات مرجعية سياسية أو إيديولوجية.
ولو أن هذا الوصف أٌستعمل اليوم من طرف معارضين من خارج المؤسسات الرسمية، أو فقط من طرف أشخاص أو هيئات مستقلة لرُميوا بأقذع القول من طرف نفس وسائل الإعلام ومن طرف نفس "المحللين" الذين يصفون اليوم أزمة المغرب بأنه ذات طبيعة سياسية.
إن من يسعون إلى وصف الأزمة الحالية في المغرب بأنها ذات طبيعة سياسية، يريدون أن يظهروا أن المغرب يعيش حياة سياسية طبيعية، وأن الصراع السياسي قائم بين موازين قوى سياسية تمثلها أحزاب سياسية، وأن الأزمة الحالية هي من طبيعة الأنظمة الديمقراطية التي تعيش دينامية تنافسية بين مكوناتها، وبالمقال يسعون إلى تحميل رئيس الحكومة المعين وحزبه وحلفاؤه مسؤولية هذه الأزمة وما يترتب عنها من تعطيل لحياة الناس ومن انعكاسات سلبية على اقتصاد البلاد.
وفي المقابل، نجد أن الطرف الآخر الذي يرفض هذا التوصيف، لأنه يعي أبعاده ومراميه السياسية، نجح في ابتكار مصطلح "البوكاج" وترويجه إعلاميا، لتحميل الطرف الأول مسؤولية تعطيل تشكيل الحكومة وبالتالي مسؤولية الأزمة الحالية.
وحتى مصطلح "الأزمة الدستورية" لم يسلم من الاستغلال السياسي لكلا الطرفين، بما أن كل طرف يسعى إلى استعمال هذا التوصيف حسب قراءته وتأويله للدستور.
وفي كلا الحالتين، فإن كلا الطرفين يسعيان إلى الترويج لفكرة مفادها أن الأزمة الحالية في المغرب هي أزمة صراع سياسي بين أحزاب سياسية حقيقية ومستقلة في قراراتها تتعارك من أجل تحسين مواقعها تماما كما يحصل في كل الديمقراطيات الجديرة بهذا الوصف.
وقد يبدو، لغير المطلع على عمق الحياة السياسية في المغرب، أن حقيقة الوضع هي كذلك. لكن ليس هذا هو واقع الأمر، وليست هذه هي حقيقة الأزمة السياسية في المغرب.
الأزمة السياسية الحالية ما هي سوى الجزء الظاهر من جبل الثلج العائم، إنها انعكاس للأزمة الحقيقية في المغرب، وهي أزمة سياسية بنيوية تتعلق بطبيعة النظام الذي يستعصي عن الدمقرطة رغم كل الإصلاحات التي باشرها بنفسه لضمان استمراريته. لأنه حتى لو تم تجاوز العراقيل التي تضعها اليوم أحزاب سياسية محسوبة على "المخزن" (وهو المكون الموازي للدولة العميقة في الحالة المغربية) فإن الأزمة السياسية البنيوية ستظل مستمرة. وقد شهدنا في ربع القرن الماضي كيف أن كل الإصلاحات التي حاول النظام ضخها في كيانه، بدأ من عفو الحسن الثاني بداية التسعينات، وحكومة التناوب، مرورا بما سمي بـ "العدالة الانتقالية" وانتهاء بالتعديل الدستوري عام 2011، كلها لم تفلح من تجاوز الأزمة البنيوية العميقة للنظام.
فبنية النظام في المغرب بطبيعتها هي بنية سلطوية، لا تسمح بمشاركة السلطة وبالتالي ترفض كل تقسيم للسلطات أو أي فصل بينها، وهي في تكوينها تجمع بين مجموعة من السلط الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقد نجحت طيلة فترة وجودها من تقوية وتنمية مناعة داخلية ضد كل عوامل التغيير وكل إجراءات الإصلاح.
لذلك فكل محاولات الإصلاح الشكلية، خاصة تلك التي تأتي من النظام نفسه لا تسعى إلى الإصلاح كغاية في حد ذاته، وإنما إلى ربح الوقت وتقوية مناعة البنية السلطوية داخل النظام لمقاومة كل عوامل التغيير الديمقراطي الممكنة.
وما يحصل اليوم هو جزء من هذه العملية، عملية الهضم الذاتي لأزمة خلقها النظام ويروض جسمه الداخلي على إنتاج عوامل مقاومتها لتقوية مناعته ضد كل شروط التغيير الديمقراطي لمؤسسات الدولة ولبنيات المجتمع وللنخب السياسية.
لذلك فإن الحديث اليوم عن "أزمة سياسية" أو "أزمة دستورية" أو "أزمة شعورية" في المغرب، هو حديث ظرفي للاستهلاك الإعلامي، ما دام أصحاب هذه التوصيفات لا يجرؤون أن يذهبوا مباشرة إلى تشخيص عمق الأزمة السياسية البنيوية للنظام المتمثلة في أسلوب تدبير السلطة السياسية الحقيقية للواقع السياسي ولقضايا المجتمع ولمصالح الشعب.
التعليقات