ما الذي يجمع بين سائق التوكتوك في مدينة القاهرة وبائع سمك في مدينة مغربية صغيرة اسمها الحسيمة معلقة في جبال الريف بشمال المغرب؟ وما الذي...
ما الذي يجمع بين سائق التوكتوك في مدينة القاهرة وبائع سمك في مدينة مغربية صغيرة اسمها الحسيمة معلقة في جبال الريف بشمال المغرب؟ وما الذي يجمع بين الاثنين، السائق المصري وبائع السمك المغربي، ومحمد البوعزيزي في تونس، الذي ارتبط اسمه بثورات ما سمي بـ "الربيع العربي"؟
كل هؤلاء تجمع بينهم كلمة واحدة هي "الحٌكرة". هذه العبارة الجديدة القديمة التي سكنت لغة وسائل الإعلام اليوم للتعبير عن حالات اليأس القصوى أو عن درجة الصفر من اليأس.
وبالمناسبة فهذا المصطلح ليس بجديد، أول ما استعملته هي الصحافة الجزائرية لوصف حالة "التهميش" و"العطالة" التي يعاني منها الشباب الجزائري، ونظرة "الإزراء" التي تتعامل بها السلطة في الجزائر مع المواطن البسيط المقهور.
وفي المغرب ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي أقحمت اللغة الدارجة المغربية في قاموس التداول الإعلامي أصبح هذا المصطلح صنو الإحساس بالذل والمهانة الذي يشعر به كل مواطن سُلب منه حقه أو أُهين في كرامته من طرف ممثل للسلطة.
حالات كثيرة تتكرر يوميا على طول خارطة العالم العربي ولا تصل أصدها إلى وسائل الإعلام والمواقع الاجتماعية، جَمعهم إحساس واحد هو الإحساس بـ "الحُكرة"
وفي قاموس المعاني يٌترجم مفردة "حُكرة" من احتكار بـ "تفرُّد شخص أو جماعة بعمل ما لغرض السَّيطرة على الأسواق والقضاء على المنافسة". وحسب نفس القاموس فعبارة "شَعَرَ بِالْحَكْرِ" تعني " شَعَرَ بِالظُّلْمِ وَسُوءِ العِشْرَةِ".
وفي معجم "الوسيط" نجد معنى أدق وأقرب إلى وصف حالة "المقهورين" في عالمنا العربي اليوم. فالفعل "حَكَرَهُ" في المعجم الوسيط يعني "ظلمَه وتنقَّصَه". و"أساءَ مُعاشرتَه". و "حَكِرَ فلانٌ حَكْراً" يعني أنه "لجَّ. وبرأيه استبدَّ".
ويورد "لسان العرب" نفس المعنى للكلمة كما هي شائعة اليوم عندما يٌخبرنا بأن "الحَكْرُ" هو "الظلم والتنقُّضُ وسُوءُ العِشْرَةِ ويقال فلان يَحْكِرُ فلاناً إِذا أَدخل عليه مشقةً ومَضَرَّة في مُعاشَرَته ومُعايَشَتِه".
وتكاد تنطبق كل هذه المعاني على الحالات التي أوردناها، فالإحساس بالظلم والاهانة والاحتقار هو الذي دفع أصحابه إلى إيذاء أنفسهم للانتصار لكرامتهم أو للصراخ عاليا لإسماع أصواتهم.
مصطفى عبد العظيم الليثي، "سائق التوكتوك" المصري عبر بغضب، عبر برنامج تلفزيوني، عن ضنك العيش الذي يعيش فيه المصريين من أبناء جلدته بسبب الظلم والقهر الذي فرض على الشعب المصري منذ الانقلاب على ثورته، فنفذت كلماته عبر الفضاء الأزرق حتى تخطت حدود بلاده ومازالت تفعل فعها هزا ورجا يتردد صداها عبر المواقع الاجتماعية في مشارق الأرض ومغاربها.
ومحسن فكري، "بائع السمك" المغربي انتفض بغضب، ذات مساء من 28 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ضد مصادرة بضاعته من السمك الذي كان يقتات من وراء إعادة بيعه، وغاضه أن يرى بضاعته تسحق أمامه داخل طاحونة حاوية الأزبال، فقفز داخل الحاوية احتجاجا على الظلم لاستعادة بضاعته ورأس ماله، لكن الآلة كانت أسرع وأقوى من إرادته فالتهمته وطحنته مع سمكه. وقد كشف تقرير الطب الشرعي أن الضحية مات ومعدته وأحشاؤه فارغة، والحادث وقع مساء عند غروب الشمس، ما يعني أن الضحية لم يأكل طيلة اليوم وهو الذي يمتهن بيع السمك! فما بالك بالفقراء من أمثاله ممن لا رأسمال لديهم لبيع أي شيء!
أما قصة محمد البوعزيزي، فالكل يتذكر تلك اللقطة التي أطلقت شرارة الثورات العربيّة عندما أقدم على إضرام النار في نفسه يوم 17 كانون الأوّل (ديسمبر) 2010، احتجاجاً على مصادرة الشرطة للعربة التي كان يبيع عليها قليل من الخضار والفواكه هي كل رأسماله ومورد قوته اليومي الوحيد.
كل هؤلاء وحالات كثيرة تتكرر يوميا على طول خارطة العالم العربي ولا تصل أصدها إلى وسائل الإعلام والمواقع الاجتماعية، جَمعهم إحساس واحد هو الإحساس بـ "الحُكرة"، هذا المصطلح الجديد الذي بدأ ينحت له مكانه داخل قاموس اللغة العربية بل وتعداها إلى لغات لاتينية فرنسية وإنجليزية واسبانية. فالكثير من وسائل الإعلام الفرنسية والإسبانية باتت تستعمل المصطلح للإشارة إلى "الإحساس بالظلم والقهر" الذي يفجر طاقة الغضب عند المواطن العربي. ووكالات الأنباء العالمية تداولت نفس المصطلح العربي في قصاصاتها الإخبارية بلغات مختلفة.
إننا أمام حالات جديدة من الغضب وطريقة التعبير عنه إما بالصراخ الذي يكسر كل حواجز الصمت وحيطان الخوف، أو بإيذاء النفس كتعبير يائس عن الشعور بالظلم.
وفي حالة المغرب، وبما أنها حدث الساعة اليوم فقد استعمل الإعلام المغربي ووسائل التواصل الاجتماعي مصطلح "شهيد الكٌحرة" للإشارة إلى استشهاد بائع السمك الذي مات دون ماله. أو ليس الشهيد هو من مات دون أهله وعرضه ماله؟ فمحسن فكري مات وهو يقفز داخل "طاحونة" الأزبال لاسترجاع بضاعته، ولم يقدم على فعلته إلا بعد أن شعر بقلة حيلته ونفاذ صبره، وما حركه هو الإحساس بالذل والاهانة الذي تعرض له وهو الذي لم يستحمل أن يرى تعب يومه، وهو الجائع المنهك، يٌرمى في قمامة الزبالة!
وفي كل هذه الحالات من مصر إلى المغرب مرورا بتونس، نحن أمام أيديولوجية جديدة، أيديولوجية بدون فكر ولا تنظير، إنها أيديولوجية الغضب التي لا تحتاج إلى الانتماء إلى حزب سياسي أو تيار مجتمعي للتعبير عن نفسها. إنها "أيديولوجية الحُكرة"، تلك النٌطفة من الغضب الكامنة في أعماق النفس الإنسانية تفيض عندما تشعر بالظلم والاهانة والإذلال.
إننا أمام حالات جديدة من الغضب وطريقة التعبير عنه إما بالصراخ الذي يكسر كل حواجز الصمت وحيطان الخوف، أو بإيذاء النفس كتعبير يائس عن الشعور بالظلم أو الأذى لإحساس الآخرين بالذنب، لعلهم يرعوا، إن هم أحسوا به!
والآخرون، هنا، ليسوا فقط هم المسؤولين عن الظلم والأذى الذي لحق بهؤلاء المظلومين، وإنما هم كل من يصمت عن استنكار الظلم ويستمرئ استمراره وتكراره. فكلنا مسؤولين عن ظلم هؤلاء المقهورين، وصمتنا هو احتقار مضاعف للاحتقار الذي دفعهم إلى التضحية بأنفسهم، بل إنه أكبر احتقار لتضحيتهم.
التعليقات