أبانت الأحداث التي شهدها المغرب مؤخرا تفاعلا مع حادث مقتل "شهيد الحكرة" في الحسيمة، عن الغياب شبه التام للأحزاب السياسية وللمؤ...
أبانت الأحداث التي شهدها المغرب مؤخرا تفاعلا مع حادث مقتل "شهيد الحكرة" في الحسيمة، عن الغياب شبه التام للأحزاب السياسية وللمؤسسات التمثيلية وللحكومة المنتخبة.
في لحظة الحقيقة هذه، اختفت جميع مظاهر "الديمقراطية" المغربية، تبخرت أحزابها وخرس "زعماؤها" واختفوا عن الأنظار، وتعطلت مؤسساتها، وظهرت الحقيقة جلية: الشعب في الشارع يحتج، والدولة ومؤسساتها وأحزابها وإعلامها ونخبها في "قفص الاتهام". ومرة أخرى اضطر الملك إلى أن يتدخل ليجد نفسه، كما في 20 فبراير 2011 وفي 2 غشت 2013 يوم التظاهر ضد العفو عن المجرم "كالفان"، وجها لوجه مع الشارع الغاضب.
ما كشفت عنه كل هذه الأحداث هو حقيقة جلية، وهي أن الحاكم الفعلي في المغرب هو الملك، وبأن المؤسسات مجرد ديكور للاستهلاك الخارجي، لكنه ديكور مكلف جدا، وحتى عندما يتم تحريك بعض قطع هذا الديكور، يتم ذلك بفعل تعليمات من الملك وتنفيذا لأوامره.
من باب المسؤولية الأخلاقية وحرصا على المال العام، فإن على من يتلقى راتبه من ميزانية الشعب أن يبرر هذا الراتب. هكذا انتقد الملك الموظفين المتخاذلين الذين يتخذون من إداراتهم "مخبأ، يضمن لهم راتبا شهريا، دون محاسبة على المردود الذي يقدمونه". أليس هذا هو كلام الملك نفسه!
لذلك من حق المواطن أن يسأل أين هو الحاكم الفعلي؟ أين هو الملك من كل ما يحصل اليوم في المغرب؟
بالأمس وقف صلاح الدين مزوار، وزير الخارجية في الحكومة المنتهية ولايتها، ووزير المالية السابق، ورئيس حزب "التجمع الوطني للأحرار" وهو حزب موالي للقصر، ليقول بأن الوضع الاقتصادي في المغرب "كارثي". قال هذا الكلام وهو يستقيل من رئاسة حزبه، بمعنى أنه لم تعد له مصلحة سياسية في المزايدات السياسية.
وبالأمس أيضا كشف لنا حادث مقتل "شهيد الحكرة" عن معاناة المقهورين من أبناء الشعب، وإذا كانت هذه المأساة قد حصلت في مدينة صغيرة اسمها الحسيمة حباها الله بهبة البحر، وحظيت بمشاريع كبيرة، حسب روايات الإعلام الرسمي، منذ أن تولى الملك محمد السادس الملك، وأعلن مؤخرا عن إطلاق برنامج "الحسيمة منارة المتوسط"، برعاية ملكية، بقيمة 6.5 مليار درهما، فما بالك بسكان القرى المهمشة والمنسية في قمم جبال الأطلس وفي فيافي الصحراء وقيعان الوديان، والذين يموتون يوميا ببطء، تطحنهم قساوة الظروف وضنك العيش وقلة ذات اليد، ويرهبهم قهر السلطة وجبروت ممثليها وينهشهم فساد المنتخبين وجشعهم وتحايل الإدارات الفاسدة وطمع أهلها؟!
عندما نَشرت صورة للملك محمد السادس في رحلته الإفريقية الخاصة التي ما زالت ممتدة حتى اليوم، على صفحتي الخاصة على فيسبوك، وقارنتها بصورة للملك الإسباني وهو في رحلة صيد إفريقية أدت في النهاية إلى تنحيه عن الملك، استهجن الكثير من "أصحاب الحسنات" هذه المقارنة، وانبرى البعض، سامحهم الله، في إعطاء الدروس. لم يكن الهدف من نشر الصورتين معا، إثارة "الفتنة" (لأن هذه هي التهمة الجاهزة و"الموضة" هذه الأيام)، وإنما بقصد التنبيه إلى الوازع الأخلاقي عند الملك الإسباني الذي انحنى أمام إرادة شعبه واعتذر أمامه عن خطئه وانتهى به المطاف إلى أن يتنحى طواعية ويتخلى عن ملكه لولي عهده، لأنه شعر بإخلاله بمسؤوليته الأخلاقية لما ذهب في رحلة صيد وترك شعبه يعاني في ظل أزمة اقتصادية خانقة، مع العلم، وللتذكير أيضا من باب المقارنات الفارقة، فالملك الإسباني يسود ولا يحكم في بلده.
من حق المواطن المغربي اليوم أن يسأل أين الملك؟ فالملك حسب الدستور هو رئيس الدولة وهو الحاكم الفعلي. ورئيس الحكومة المعين، عبد الإله بنكيران ما فتئ يردد مثل هذا الكلام طيلة السنوات الخمس الماضية. وللملك مسؤوليات يٌقِرٌّها ويحددها الدستور وتخصص لصاحبه 2.4 مليار درهم (نحو 240 مليون أورو) سنويا من ميزانية الشعب. ومن باب المسؤولية الأخلاقية وحرصا على المال العام، فإن على من يتلقى راتبه من ميزانية الشعب أن يبرر هذا الراتب. هكذا انتقد الملك الموظفين المتخاذلين الذين يتخذون من إداراتهم "مخبأ، يضمن لهم راتبا شهريا، دون محاسبة على المردود الذي يقدمونه". أليس هذا هو كلام الملك نفسه!
لو وقع ما عاشه المغرب من أحداث في دولة توجد بها مؤسسات حقيقية تمثل إرادة الشعب، والحاكمون فيها مسؤولون أمام الشعب، لاضطر رئيس الدولة إلى إلغاء جميع مواعيده وتأجيل جميع اجتماعاته واستقبالاته، وليس فقط قطع عطلته، لأنه هو الضامن لحسن سير مؤسسات الدولة. هكذا ينص أيضا الدستور المغربي في الفصل 42 "الملك، رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة".
ولو احتكمنا فقط إلى هذا الفصل من الدستور، لكان على الملك أن يقطع رحلته الخاصة منذ اليوم الأول لوقوع الحادث المأساوي ويعود إلى البلاد. فخلال خروج المتظاهرين إلى الشارع احتجاجا على "الحكرة"، تحدثت عدة منابر إعلامية رسمية ومحللين رسميين عن وجود "أجندات أجنبية" تستهدف استقرار المغرب وزرع "الفتنة" بين أبنائه، والحال أن الملك الذي يعتبر حسب الدستور "رمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها" غائب عن البلد. وإذا كان ما حرك احتجاجات الشارع المغربي تفاعلا مع الحدث المأساوي لـ "شهيد الحكرة" هو إحساس المواطنين بالظلم والقهر والحكرة في بلدهم، فإن الدستور المغربي، ينص مرة أخرى على أن الملك هو الساهر على "حقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات"، والحال أن الملك في هذه الحالة ما زال غائبا عن بلده.
الحُكم ليس مجرد مُلك يورَث مثلما تورَث الأشياء المنقولة، وإنما هو أولا وقبل كل شيء مسؤولية سياسية وأخلاقية. وممارسته هي تجسيد لروح هذه المسؤولية، وهذا ما يجعل منه تشريفا يميزه ويرفعه عن كل تكليف مكلف!
التعليقات