باقة ورد حمراء ودمعة لفيديل، الثوري الكبير والانسان الكبير. «فيديل كاسترو واثنا عشر من رجاله ومع الحرية هبطوا على الشاطيء»، هكذا...
باقة ورد حمراء ودمعة لفيديل، الثوري الكبير والانسان الكبير.
«فيديل كاسترو واثنا عشر من رجاله ومع الحرية هبطوا على الشاطيء»، هكذا كتب بابلو نيرودا شعراً في وصف بداية ملحمة الكفاح المسلح التي انتهت باسقاط الدكتاتور الكوبي باتيستا في اول العام ١٩٥٩.
واول انجاز لفيديل كاسترو ورفاقه انهم حوّلوا الى وطن مستعمرة اميركية تنتج المنتوج الاوحد: السُكّر، وتخدم كملهى ونادي قمار ومبغى للاثرياء وزعماء المافيات. هو وطن اراده فيديل قبل اي شيء آخر مستقلا كريماً في مواجهة العداء الاميركي السافر الذي واجه الثورة منذ ايامها الاولى بالحصار ومحاولات خنق انفاسها التي الهبت جماهير اميركا اللاتينية وحجز تأثيرها في سائر العالم الثالث. واجه فيديل كاسترو ورفاقه عشرة رؤساء تعاقبوا على حكم الجار الامبراطوري مواجهة الندّ للندّ فأفشلوا غزو عملاء السي آي اي في خليج الخنازير العام ١٩٦١، وخرجوا سالمين من ازمة الصواريخ السوفييتية العام ١٩٦٢ وقضوا على عناصر الثورة المضادة الداخلية من اتباع الدكتاتورية التي جيّشتهم السي آي اي.
وقد تطورت المجابهة مع الولايات المتحدة بحيث دفعت وطنيين وديمقراطيين وتقدميين كوبين الى التجذّر فكرا وممارسة وصولا الى تبني الماركسية وتأسيس حزب شيوعي العام ١٩٦٥. اعطى النموذج الكوبي وجها جديدا للماركسية واسهم في اطلاق يسار عالمي جديد عبر العالم. بالاشتراكية حرر فيديل كاسترو الكوبيين السود من التمييز العنصري، ومنح النساء حقوقا واسعة ودورا اكيدا في الحياة العامة، وأدخل شعباً باكمله في المدارس بعد القضاء التام على الامّية وبنى أنجح انظمة الرعاية الصحية في اميركا اللاتينية، مفاخرا بأن كوبا بلد يموت فيه الناس بسبب تقادم العمر لا بسبب المرض، وحقق اقتصاده درجة الصفر في نسب البطالة، واعاد توزيع الارض والثروة فيما تسجل له احصائيات الامم المتحدة ادنى معدلات التفاوت الطبقي في العالم.
في الدائرة الاميركية اللاتينية كان الدور الابرز للثورة الكوبية هو في تحرر شعوب اميركا اللاتينية من الاوليغارشيات والدكتاتوريات العميلة للولايات المتحدة، وهو المسار الذي تعمّد بدم رفيقه تشي غيفارا في بوليفيا. ورغم التشديد المبالغ فيه للكاستروية على الكفاح المسلّح لم يتردد فيديل في تقديم الدعم الكامل لتجربة بناء الاشتراكية سلميا التي جسدّها سلفادور الييندي في التشيلي والتي لم تلقَ إلا تكالب الاحتكارات الاميركية والسي آي إي على إغراقها بالدم، وقتل رئيسها المنتخب ديمقراطيا، في انقلاب بينوشيه العسكري وطغمته الفاشية الدموية. ولا تزال بذور ما زرعته الثورة الكوبية تتفاعل في انماط متجددة من الحركات الشعبية واليسارية عبر جنوب القارة الاميركية ليس اقلها تجربتا البرازيل وفينزويلا.
ولا بد ان يذكر لفيديل جهوده الخلاقة للمصالحة بين الماركسية والدين عبر تغذية ودعم تيار «لاهوت التحرير»، داعية الحق في الثورة ولو بالسلاح على الحاكم الظالم، الذي حرّك وحشد ملايين الكاثوليكيين في اميركا اللاتينية تحت رايات التحرر الوطني والمساواة والعدالة الاجتماعية. وقد واكب فيديل كاسترو وحزبه إعادة الاعتبار لهذا التيار في الآونة الاخيرة التي توجّت بزيارة البابا فرانسيس الاخيرة الى هافانا.
اعطت الثورة الكوبية للتضامن بين الشعوب احد انبل معانيه: تضامن الفقراء مع الفقراء، والمناضلين من اجل الخبز والحرية مع اقرانهم. فاسهمت الوحدات الكوبية المقاتلة بدورها في غير ساحة من ساحات الحرية في في الكونغو وغانا ونيكاراغوا وانغولا واثيوبيا واليمن، وذروة ذلك الدور الاسهام في اسقاط نظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا. وفي السلم مارست الثورة الكوبية تضامنها من خلال الاطقم الطبية والتعليمية العاملة على مكافحة الاوبئة والامراض والامية في غير بلد من القارة الافريقية.
يأخد نقاد كاستروعليه الانفراد في الحكم، وهم داعمو الكثرة الكثيرة من طغاة العالم او متغاضون عن جرائمهم وانظمتهم التسلّطية. ويتهمونه بتصفية خصومه، وهم مسؤولون عن ٧٣٦ محاولة لاغتياله على ايد عملاء الدولة التي تدّعي انها زعيمة «الحرب الكونية ضد الارهاب». والنظام الكوبي متّهم بوجود سجناء سياسيين لديه، وعلى الارض الكوبية المحتلة يقع معتقل غوانتنامو الاميركي الرهيب!
نعم، لقد بنى فيديل كاسترو سلطة للحزب الاوحد في ظل حكم فردي ازداد اتكالا على الامن والعسكرة والتسلّط البيرقراطي. وهذا تشوّه كبير لمشروع تحرر الوطني حاول تجربة جديدة في الديمقراطية التشاركية. ولكن الا تقع اية مسؤولية في ذلك على نحو نصف قرن من الحصار الخانق والتجويع والعزل والتحريك الذي لا ينقطع للتمرد الداخلي المسلّح لتأديب جزيرة رفض اهلها الاستمرار في لعب دور القاصر والتابع للإدارة الامبراطورية الاميركية؟
باكراَ، التقط فيديل كاسترو الطور النيوليبرالي المتعولم الذي دخلته الرأسمالية. ونشراكتشافه على العالم في خطاباته الشهيرة. وبعد تنحيّه عن السلطة ظل القائد المشاغب ينتقد حتى النظام الذي بناه محذّراً من إعلاء السوق على الانسان وتنصيب الحقوق الفردية والشخصية في وجه الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والبيئية ومحاربة الحق في المساواة بإسم الحرية.
في خطاب امام المحكمة التي قضت يسجنه ١٥ عاما بتهمة رفع السلاح ضد النظام الدكتاتوري، ختم المحامي الشاب فيديل كاسترو كلامه بعبارة «ان التاريخ سوف يبرئني!».
لقد دخل فيديل كاسترو التاريخ. والتاريخ سوف يبرئه.
التعليقات