بعد أن انتخت دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية خرجت المظاهرات ضده في أكثر من مدينة أمريكية، وتوجهت كل سهام النقد إلى رئيس أم...
بعد أن انتخت دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية خرجت المظاهرات ضده في أكثر من مدينة أمريكية، وتوجهت كل سهام النقد إلى رئيس أمريكا الجديد واصفة إياه بالعنصري والشعبوي والغبي.. الكثير من الأوصاف التي تنتقد سلوك الرجل وتستهجن تصريحاته وتشكك في قدراته الفكرية على قيادة بلد مثل أمريكا.
وهذا النقد أغلبه موضوعي، وهو في نفس الوقت مطلوب، لأنه يعكس جزء مما أصبح أمرا واقعا. فترامب الذي اعتقد الكثيرون أنه مجرد "أرنب سباق" جيء به لتنشيط حملة السباق نحو الأبيض، خلق المفاجئة وأصبح رئيسا للشعب الذي يخرج اليوم الكثير من أفراده للتظاهر ضده، ويكتب الكثير من المعلقين محذرين من خطورته وتهوره ومغامراته.. وهذه أيضا كلها مخاوف في محلها. فتصريحات الرجل كشفت عن كثير من نواياه وقراراته التي قد تكون لها انعكاسات كارثية على واقع بلده وعلى العالم في حال تطبيقها..
لكن، مهلا. ليس ترامب وحده هو المسؤول عن انتخاب نفسه. فهو وصل إلى رئاسة بلاده عن طريق انتخابات ديمقراطية، المفروض أن الشعب الأمريكي صوت فيها بحرية واختار قراره. والواقع اليوم، هو أن ترامب حظي بتأييد نصف الناخبين الأمريكيين وعددهم بالملايين. أفلا يتحمل هؤلاء أيضا جزء من المسؤولية في انتخاب رجل مثل ترامب رئيسا لهم، إن لم يكونوا مسؤولين بصفة مباشرة عن وصوله إلى البيت الأبيض؟ وهل كان ترامب سيصل إلى السلطة لو لم يلقى دعم ومساندة كل الأمريكيين الذي صوتوا لصالحه؟
هؤلاء الأمريكيون الذين صوتوا لترامب هم جزء من الشعب الأمريكي، وهم مسؤولون عن انتخابه رئيسا لبلادهم، لكن لا أحد يٌحملهم مسؤولية اختيارهم الذي يصفه الكثيرون اليوم بالكارثي.
ترامب هو نتاج لمجتمعه الأمريكي، وانتخابه هو قرار جزء من الشعب الأمريكي. وقد حان الوقت لانتقاد هذا الذي يسمى "الشعب" وتحميله مسؤولية اختياره. ورغم أنه لا مجال للمقارنة حتى الآن بين ترامب وأدولف هتلر، إلا أنه لا يجب أن ننسى بأن هتلر نفسه كان رئيسا منتخبا، اختاره جزء من الشعب الألماني رئيسا له، قبل أن يتحول إلى دكتاتوري بسياسات كارثية كلفت العالم ملايين الضحايا في حرب مجنونة كادت أن تؤدي إلى دمار العالم ونهايته.
لذلك يجب أن نتحلى بالشجاعة ونلتفت إلى توجيه النقد إلى الشعب. نعم، لماذا لا ننتقد الشعب؟ هذا "الكائن" الهلامي الذي يمجده ويقدسه وينزهه الكثيرون وينسبون له صناعة التاريخ وتشكيل الأمم وخلق الأوطان وقيادة الثورات وبناء الحضارات. وهذا صحيح. لكنهم يتناسون أخطائه ويتغاضون عن سقطاته..
فالشعب. هذه الكلمة السحرية التي ألهمت الأدباء والشعراء وشغلت بال الفلاسفة وعلماء الاجتماع والمفكرين. هو نفس الشعب الذي يٌنتخب المستبدين ويهلل للدكتاتوريين ويبارك ويبايع حكامه الجاهلين. فلماذا يتم التغاضي عن أخطائه وتجنب نقده؟
قبل خمسة قرون كتب قاضي هولندي يدعى إيتيان دو لا بويسي مقالة مشهورة تحت عنوان "العبودية الطوعية"، مازال موضوعها آنيا حتى يومنا هذا فيها نقد لاذع للشعب، يصف فيها عبودية الشعوب بأنها عبودية طوعية، فهم الذين "يذبحون أنفسهم بأنفسهم"، وهم الذين "بخضوعهم الطوعي للظلم والاستبداد يشوّهون الطبيعة البشرية، المفطورة أصلاً على الانعتاق والحرية".. وفي نفس المقالة يصف لا بويسي الشعب بأنه"مسكين وبائس وأحمق"، لأنه "أعمى لا يرى نعمته التي أنعم الله بها عليه ألا وهي الحرية التي يبادلونها بالتسلط والعبودية".
الشعب هذا الخليط الغريب من الناس الذين تتكون منهم المجتمعات بطبقاتها وشرائحها، الذي نبحث دائما عن الأعذار له فقط لأنه "ضحية" فاسدين ومستبدين. أليس هؤلاء أنفسهم جزء من هذا الشعب؟ هل كان هؤلاء سيصبحون فاسدين ومستبدين لو لم يجدوا في صفوف الشعب من يدعمهم ويساندهم ويتستر على فسادهم؟ من أين يأتي كل هؤلاء الوصوليين والانتهازيين الذي يلمعون صور هؤلاء المستبدين، ويقدونهم كأولياء وقديسين؟ ومن أي يأتي أتباع كل هؤلاء الفاسدين، يهللون بمدحهم ويسبحون بمجدهم؟
ليس في طرح هذه الأسئلة أي دفاع عن المستبدين والفاسدين، ولكنها محاولة لتحميل الشعب جزء من المسؤولية التي هو صاحبها. تقول أغاتا كريستي "الشعب الذي يشبه القطيع تقوده حكومة من الذئاب".
أما الكاتب جورج أورويل صاحب روية "1984" فكتب منتقدا الشعب قائلا: الشعب الذي ينتخب الفاسدين والانتهازيين والمحتالين واللصوص والخونة لا يعتبر ضحية، بل شريكا في الجريمة".
وفي التراث العربي عبارة "كما تكونوا يولى عليكم"، التي يعتقد أنها حديث نبوي، إلا أن كثيرين يٌضعفونها. لكن الاختلاف لم يقع فقط حول مدى صحة هذه المقولة كحديث نبوي، وإنما أيضا حول معناها فهناك من فسرها بأن الاستبداد هو عقاب إلهي للناس الذي لا يلتزمون شريعة الله، وفي هذا تزكية للاستبداد باسم الدين، ولا أعتقد أن هذا هو معنى العبارة، لأنه يختلف مع فلسفة الأديان السماوية التي جاءت محررة للإنسانية. وهناك من يرى فيها دعوة إلى الناس إلى رفض الظلم فيما بينهم ورفض الاستبداد حتى يكونوا أهلا للعدل والحرية.
وطريق العدل والحرية يبدأ من خلاص الشعب من عبوديته، وبداية الخلاص يجب أن تنطلق من توجيه النقد لهذا الذي يصنع المستبدين ويمجدهم ويقدسهم ويعود ليشتكي من ظلمهم وفسادهم.. ومن هنا الحاجة إلى انتقاد الشعب ليس في أمريكا وإنما أيضا حتى في منطقتنا العربية لأن كل الكوارث التي حلت بشعوب المنطقة تتحمل فيها هذه الشعوب جزء من المسؤولية حان الوقت للحديث عنها بلغة نقدية لا تهاب نقد الشعب.
التعليقات