يتّضح، من النّاحيةِ الشّكلية، أن الأحْداث المتعاقبة في الساحة السياسية بالمغرب، تُضمر صراعًا ما حول "السلطة"، بين قطبين، قطب ي...
يتّضح، من النّاحيةِ الشّكلية، أن الأحْداث المتعاقبة في الساحة السياسية بالمغرب، تُضمر صراعًا ما حول "السلطة"، بين قطبين، قطب يقوده حزب العدالة والتنمية وحلفائه، وقُطب يقُوده القصْر عبر ديوانه وأحزابه المُقرّبة. هذا الصراع طفى إلى السّطح عَقب خطابٍ رسمي انتقد فيه الملك تصريحات رئيس حُكومته عبد الاله بنكيران، ثم تلاه البلاغُ النّاري الذي أصدره الدّيوَان الملكي ضدّ أمين عام حزب التقدّم والاشتراكية وزير السكنى والتعمير، نبيل بنعبد الله. إن هذا الصراع داخل بينة الحكم سيظل قائما في إطار التدافع السياسي، وسيسمح به الحُكم ثارة لإعادة ترتيب التوازنات ويوقفه ثارة أخرى إن كان يشكل خطرا على المؤسسات الرّسمية.
أما من وجهة النظر الواقعية، فيمكن تشبيه المشهد السياسي بالمغرب بـ''بمسرح العرائس''ّ. ففي هذا النوع من المسرح يتوارى "المخرج" عن أنظار الجمهور خلف ستار حاجب، يخلق أحداثًا مشوقة وجديرة بالمتابعة من خلال تحريك الدّمى بخيوط خفية لا يعلم قواعد تحريكها إلا هو ومساعدوه. وإن الخبرة والسلاسة التي يمتلكها المخرج تجعل الدمى أكثر إثارة.
في ''مسرح الدّمى''، كما تؤكد ذلك مجموع تعريفاته، "يعتبر المخرج محركًا أساسيا لكل ما يجري من تفاعلات بين الشخوص على خشبة المسرح"، في نفس الوقت، يحرص أن يتفاعل مع جمهوره من خلال "عرائسه"، نظرا لما تمتاز به "من ليونة منقطعة النظير في التغيّر مع المواقف وحسب المشاهد"، لكن المخرج، لا يبرح عتمته طيلة فصول المسرحية مختبئا ومتحكما في المسار العام. في هذا النوع من المسرح يتخيل للجمهور عموما أن تلك الدّمى شخصيات حقيقية فاعلة فوق الرُّكح، لكنها في الحقيقة مجرد أدوات جامدة تحركها يد المخرج والمنفذ.
لنكن أكثر واقعية الآن، لماذا هذه الاستعارة؟ من خلال قراءة متأنية لدستور 2011، بعمق سياسي أكثر وضوحا، يمكن التأكيد على أن رئيس الحكومة، مهما كان وزنه السياسي، يساعد فقط، حسب الدستور، على تشكيل "لجان إجرائية" غير متجانسة تترأسها شخوص تتحرك وفق أوامر الملك، تدّبر وتنفذ مشاريع الحكم المطلق وهي التي نسميها في الأدبيات السياسة بـ"الوزارات".
لذلك يكتسي هذا التشبيه أبعادا جذّابة، لأن مسرح الدّمى يتميز بخاصية فريدة، يشرع من خلالها المخرج في سرد حكاياته، وتوزيع الأدوار حسب الحاجة، ثم يتحدث بلسان شخوصه بنبرات مختلفة طيلة المسرحية. وهذا تماماً ما يحدث في السّاحة السيّاسية المغربية اليوم. إن القاعدة ثابتة والانفلاتات مجرد تفاصيل حيث أن الملعب مرسومٌ سلفاً ولا حق للعرائس في تجاوزه. وخير دليل على ذلك أن كل من بنعبد الله وبنكيران أحجما عن تصريحاتها الأولى وأطلقا ألسنتهما للتبرير بعد تنبيهما من طرف أصحاب السلطة الحقيقية.
إن الملكية في المغرب، نظرا لحظورها القوى في القطاعات الاقتصادية الحيوية واستفرادها بالشؤون الخارجية ووزارة الداخلية والتعيينات في المناصب الحساسة والمؤسسات الاستراتيجية، لا يمكن أن تترك هامشا للوزراء المنتخبين. فالملك يترأس، طبقاً للفصل 48 من الدستور، المجلس الوزاري، مختبر الخطط الاستراتيجية للبلاد الذي يعتبر رئيس الحكومة مجردَ عضو فيه. هذا المجلس هو المخول له التداول في التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة، ومشاريع مراجعة الدستور، ومشاريع القوانين التنظيمية، ثم التوجهات العامة لمشروع قانون المالية. لذلك لن تكون الانتخابات التشريعية لـ 7 أكتوبر المقبل سوى محطة صُورية تقود الاحزاب إلى مسرح دُمى تحركه أيادي الملك. خاصة أنه يحق له، طبقا للفصل 51 من الدستور، حلّ مجلسي البرلمان أو أحدهما بظهير، وهما المجلسين المنتخبين من عموم الشعب، وأساس تشكيل الحكومة.
في هذا الواقع السياسي المركب، لا مجال للحرص على نزاهة الإنتخابات التشريعية، لأن الإشكال المطروح ليس في مرورها في ظروف عادية، وإنما في قدرتها على إنتاج قوى سياسية قادرة على تنفيذ برامجها عند تشكيلها للحكومة، وهذا ما لا يمكن حدوثه وفقا لدستور 2011 والتوازنات السياسية التي أفرزتها المرحلة ثم إلى المنطق السلطوي الذي ثم من خلاله تنزيل الدستور وقوانينه التنظيمية.
من جانب أخر، يمكن اعتبار التجربة الانتخابية المقبلة فريدة من نوعها لكَوْنها استقطبت فاعلا جديدا في الساحة السياسية، أكثر نظافة، وهو فيدرالية اليسار الديمقراطي، تحث قيادة نبيلة منيب، التي قالت لن أقبل أن أكون وزيرة كركوزة - في تأكيد واضح للتحليل الذي قدمه هذا المقال- لكن السؤال المطروح، ألم تقدم الفديرالية هدية إضفاء الشرعية على عملية تهدف من خلالها السلطة إلى تمويه الرأي العام، ألم تتجاوز عبثا مبدأ "الشرط الديمقراطي" لخوض هذه الانتخابات الموبوءة؟ أليست الفدرالية سمكة نظيفة ألقت نفسها في شْوَاري نَجِسْ بالأسماك المنتهية الصلاحية؟
هذه الأسئلة ستجيب عنها الأيّام المقبلة.. لكن، لا يمكن إغفال مسألة غاية في الأهمية، أن كل الأحزاب التي تخوض المنافسات الانتخابية بالمغرب، وبدون استثناء، تعرف مسبقا أن الانتخابات ليست وسيلة للوصول إلى السلطة والتدبير الحر للشأن العام، وإنما مجرد عملية عابرة لتبيض وجه النظام السياسي، وهذا تماما ما تريده السلطة: أن توصلنا إلى الإقتناع المبدئي بالدخول في لعبتها وإضفاء الشرعية عليها، حتى وإن مالت أغلبية الأصوات إلى الحزب الأكثر عداءً لتوجهاتها. فالسلطة تعلم مسبقا أن النخبة فقدت الأمل في العملية الانتخابية، لذلك تحاول أن تعيد ثقتها في المؤسسات عبر خلق هذا الصراع الوهمي والذي يجري فقط في المنصة الأمامية. أمام المنصة الخلفية فالله أعلم بما يجري داخلها.
إن خير ما أكدت عليه التجارب الحكومية السالفة، أن نظام الحكم في المغرب شديد التعقيد، بحيث تصبح معه الانتخابات مُجرد مضيعةٍ للوقت.
بعد تجْربة حكومة عبد الله إبراهيم، يُمكننا الإحالة على تَجربة التناوُب التوافُقي التي كانت تحث إشْراف عبد الرحمان اليوسفي، والذي اتَى في ظرفية اسْتثنائية قبل سنة من رحيل الحسن الثاني، ولم تفض تجربتُه الى أي نتائج تذكر، مؤكّدة أن الحَاكم الفعلي للمغرب هو القصر، حتى مضى السّياسي الأول بالمغرب إلى عزلته القاتلة يجُر أذْيال الخَيبة. أما التجربة الثانية هي تلك التي أتت بعد الحراك السياسي الذي عرفه المغرب سنة 2011، والذي قاد الاسْلامي المثير للجدل عبد الاله بنكيران إلى رئاسة الحكومة، وأكد من خلالها بعد خمس سنوات، في أكثر من مناسبة، أن حاكم البلاد ليس سوى الملك، معتبرا أن المغرب فيه دولتان، دولة يرْأس حكومتها ودولة القرارات والتعيينات ''التي لا نعرف من أين تأتي''، حسب تعبيره. وقادته هذه التصريحات إلى إبتلاع لسَانه أيضًا.
إن بنية "المخْزَن" معقدة تتحرك بهذا البعد العميق لمسرح العرائس، لأنه خبر بما فيه الكفاية هذا النّوع، ولا يخطئ أبدا إلا إذا اختلطت عليه الخيوط المحركة، أو إذا دعت الضرورة لذلك. لكنّه سُرعان ما يُعيد ترتيب شخوصه حتى وإن تتطلّب الأمر تغيير بعض أبْطال مسْرحيته.
*صحفي
التعليقات