سألت أحد رجال الدولة، العارفين بخباياها وطرق اشتغالها، عن الربح الذي تجنيه من وراء استمرارها في تضييق الخناق على معارضيها الحقوقيين وا...
سألت أحد رجال الدولة، العارفين بخباياها وطرق اشتغالها، عن الربح الذي تجنيه من وراء استمرارها في تضييق الخناق على معارضيها الحقوقيين والإعلاميين والسياسيين، رغم تقاطر الأحكام القضائية والتقارير الدولية التي تؤكد تراجع وضعية حقوق الإنسان في المغرب إلى مستوى متدن، وما يستتبع ذلك من آثار سلبية على صورته ومصالحه؟ أجابني صديقي رجل الدولة، دون لف أو دوران: إنها هيبة الدولة يا صديقي.
«الدولة عازمة، مهما كلفها ذلك، على ترميم هيبتها التي تصدعت وتضررت كثيرا مع حركة 20 فبراير التي وصلت جرأتُها على مؤسساتِ وأجهزةِ الدولةِ ورموزِها حدا لم يعرفه المغرب منذ سنوات الستينيات، التي انتهت بإعلان الحسن الثاني حالة الاستثناء عقب أحداث 23 مارس 1965»، أضاف رجل الدولة العارف بخباياها.
عدتُ أسأله: وإلى متى ستستمر حالة الاستثناء الحقوقية هاته؟ أجاب: ستستمر باستمرار اختلال التوازن السياسي لصالح الدولة العميقة، ثم أردفَ شارحا: أمام تشرذم الجبهة الديمقراطية، وتراجع حراك الشارع ومرور الدولة إلى برّ الأمان، ثم نجاحها في بسط يدها على كل الأحزاب الموجودة داخل البرلمان، وانتقالها من نموذج حزب الدولة، الذي بدأ التحضير له في 2008 بتأسيس حزب الأصالة والمعاصرة، إلى نموذج أحزاب الدولة التي يُعيَّن زعماؤها ويُحشد لهم دعم الكتاب الإقليميين والبرلمانيين ورؤساء الجماعات الذين أصبحوا يتلقون التوجيهات من أجهزة الدولة أكثر مما يتلقونها من أجهزتهم الحزبية... ستبقى حالة الاستثناء الحقوقية هاته قائمة.
وخارجيا، سألت، كيف يستطيع المغرب أن يدافع أمام حلفائه وخصومه الخارجيين عن وضعه الحقوقي؟ ابتسم الرجل وقال: في علاقته بالخارج، لا يجيد المغرب شيئا قدرَ إجادته إدارةَ دفةِ شراعه إلى أو عن البلدان الهادرة بالعواصف. ألم تر كيف رد المغرب على فرنسا، بعد إهانة وزير الخارجية، صلاح الدين مزوار، بإجباره من طرف أمن مطار أورلي على نزع حذائه، ثم توجيه اتهامات بالتعذيب إلى عبد اللطيف الحموشي، والتساهل مع المعارض المغربي، مصطفى أديب، في الوصول إلى غاية باب الغرفة التي كان يرقد فيها الجنرال عبد العزيز بناني؟ ألم تر، أيضا، كيف رد المغرب على الاستفزازات المتصابية لبعض الإعلاميين المصريين، باستفزاز أوجع صانعي القرار المصري، ودفعهم إلى التوقف عن الاصطياد في الماء المغربي-الجزائري العكر؟
قلت: ألن يؤثر هذا الوضع على الاستثمارات الأجنبية وعلى السياحة؟ أجاب رجل الدول بأن وضع «اللاديمقراطية واللااستبداد» أبان عن نجاحه في ضمان استقرار المغرب الذي أصبح يُنظر إليه، في الغرب، كنموذج سياسي وديني وأمني يُنصح بتصديره إلى دول الجوار، ثم أضاف: أنظر كيف أن الحموشي، الذي استدعاه القضاء الفرنسي لاعتبارات ذات صلة بموضوع حقوق الإنسان، يتم توسيمه، في الفترة ذاتها، من طرف إسبانيا، بوسام الاستحقاق الأمني، وهذا يعني أن المقاربة الإسبانية أصبحت تحذو حذوَ نظيرتها المغربية في اعتبار الأمن أولوية على حقوق الإنسان، ولعل فرنساعادت، بعد مجزرة «شارلي إيبو»، إلى اعتماد المقاربة ذاتها.
قلت: فما قيمة وجود دستور يعطي سلطات كبيرة للمؤسسات المنتخبة ويربط المسؤولية بالمحاسبة، إذا كان الجوهر التحكمي للدولة سيبقى مستمرا بقوة؟ قال: حال الدستور والبرلمان والأحزاب والحكومة كحال البيعة وقُفة رمضان وخروج الملك للقاء مواطني البلدان التي يزورها، متحررا من البروتوكول... فكلها يجب أن تنضبط لـ »مسرحة السلطة» (La dramatisation du pouvoir)
كما يطرحها عالم الاجتماع الفرنسي جورج بالونديي في كتابه «Le pouvoir sur scènes»، فإذا حدث وكان هناك دستور متقدم على سابقه أو تم تقديم صورة الملك متخففة من البروتوكول أو سمح بأشكال من التظاهر والاحتجاج ضد الدولة، فهذا لا يعني أبدا أن الدولة فقدت هيبتها، لأن هناك ما يوازي ذلك من طقوس الإخضاع وأشكال التدخل والتحكم والكبح، التي تشبه ما يقوم به الجمل في دكِّ ما حرث، لكن بوعي. أليس وجود «مخزن ظالم ومهيب خير من طغيان قوم فاسدة و»سايبة»؟ سألني صديقي رجل الدولة هذه المرة، فأجبت: هَيبة الدولة الحقيقية من هَيبة مواطنيها، وإذا حدث أن وجدت الدولة، اليوم، من يبارك تحكمها من سياسيين منخورين بالفساد، فهذه وضعية استثنائية. أما هَيبة الدولة الحقيقية فلا يمكن أن تُبنى إلا مع سياسيين ونقابيين وحقوقيين وصحافيين لا يهابون الدولة ولا يتآمرون عليها.
التعليقات