أثارت تصريحات أحمد الريسوني، الرئيس السابق لحركة "الإصلاح والتوحيد"، الذراع الدعوي لحزب "العدالة والتنمية" الذي يقود...
أثارت تصريحات أحمد الريسوني، الرئيس السابق لحركة "الإصلاح والتوحيد"، الذراع الدعوي لحزب "العدالة والتنمية" الذي يقود الحكومة في المغرب، الكثير من ردود الأفعال من طرف إسلاميين وعلمانيين. فماذا قال الريسوني حتى تثار حوله كل ردود الأفعال هذه، والتي ما زالت تتفاعل؟
كل ما قاله الريسوني إنه ضد القانون المغربي الذي يجرم الأشخاص المفطرين جهرا في شهر رمضان، اعتمادا على القاعدة الفقهية التي استشهد بها والتي تقول بأن لا دخل للحاكم في أحكام العقيدة.
فما هو الجديد في مثل هذا القول؟ لقد سبق للكثير من المنظمات الحقوقية والشخصيات الفكرية أن أعلنت معارضتها لهذا القانون وطالبت بإلغائه، لأنه يتدخل في حياة الناس الشخصية وفي ما هو أكثر خصوصية أي عقيدة الشخص. فلماذا يجب أن ننتظر حتى يصدر مثل هذا الكلام عن شخص صاحب مرجعية فقهية ليقيم البعض الدنيا ويقعدها آخرون؟!
ثمة من ذهب إلى حد اعتبار أن تصريحات الريسوني تشكل "ثورة" بالنظر إلى المرجعية المذهبية التي تؤطر تفكيره، وهو ما سبب له أيضا الكثير من الانتقاد من طرف أصحاب نفس المرجعية ممن ما زالوا يحتكمون إلى النصوص ولا يفكرون في تفعيل عقولهم لفهمها واستيعابها وأبعد من ذلك نقدها وتفكيكها. وثمة من قرأ في تصريحات هذا الفقيه مجرد حسابات تكتيكية وتوزيع للأدوار ما بين جناحي حركته الدعوي المتمثل في حركة "الإصلاح والتوحيد"، والسياسي المتمثل في حزب "العدالة والتنمية" قائد الحكومة التي يوجد داخلها على رأس وزارة العدل رفيق دربه في الحركة، مصطفى الرميد، المسؤول الأول عن احترام تطبيق هذا القانون الذي انتقده الريسوني وطالب بإلغائه!
وبالنسبة لآخرين فإن ما جاء به الريسوني هو كلام عادي، بل إنه جاء متأخرا عدة سنوات، فقد سبقه إليه قبل أعوام شباب حركة "مالي" الذين يعود إليهم الفضل في إثارة مثل هذا النقاش الذي كشف عن "شوزفرينية" الدولة و"نفاق" المجتمع المغربي.
وعلى غرار السنوات الماضية، سينتهي شهر رمضان الحالي، وسيغلق قوس هذا النقاش، في انتظار أن يفتح في رمضان العام المقبل، وسيبقى القانون كما هو لن يطاله أي تغيير، رغم أن الكثير من الأحزاب في الحكومة كما في المعارضة أعلنت وتعلن صراحة معارضتها له، فمن يتمسك به؟ ومن يقف ضد تغييره؟
هذا هو السؤال الذي لا يناقش في المغرب. فقد سبق أن كتبت في هذا الركن، الأسبوع الماضي، أن المستعمر هو من فرض هذا القانون زمن الحماية، لكن تبين بعد ذلك أن هذا القانون مغربي محض، وضعه الملك الراحل الحسن الثاني لمحاباة الجانب المحافظ داخل المجتمع المغربي ولتأليبه، إلى جانبه في صراعه في ستينات القرن الماضي، ضد المعارضة اليسارية التي كانت تقض مضجع حكمه.
"المستفيد الوحيد اليوم من مثل هذا النقاش هو السلطة نفسها التي وضعت هذا القانون وما زالت تحميه وتطبقه، وتذكي النقاش حوله في كل رمضان، وتشجع أصحابها وإعلامها والمقربين منها على مهاجمته، وتساير تخلف المجتمع في تطبيقه."
اليوم، انقلبت الآية، وأصبح التمسك بمثل هذا القانون موضوع مزايدات تضع السلطة رهينة لتنامي التيار المحافظ، والذي طالما رعته وغذته داخل المجتمع. والسلطة في المغرب بطبيعتها محافظة، وهي اليوم بين فكي الكثير من المزايدات المحافظة من كل نوع ومن كل حدب وصوب. وتصريح الريسوني يدخل في سياق هذه المزايدات، بما أنه يرفع السقف والتحدي أمام الجانب الذي يريد أن يقدم نفسه "حداثيا" و"تقدميا" داخل نفس النسق السياسي والفكري المحافظ.
ملاحظة أخيرة، كل اللذين امتدحوا رأي الريسوني وصفوه، بدون تحفظ أو تنسيب في القول والوصف، بالفقيه المجدد والمجتهد. وإذا ما علمنا أن صدور مثل هذا التصريح من مرجع فقهي تطلب سنوات إن لم نقل عقودا، في أمر "عابر" مع عبور شهر الصيام، فكم من عقود أخرى يجب أن ننتظر حتى تصدر تصريحات فيما هو أهم وأجدى وأنفع للناس، أي فيما يتعلق بحرياتهم وحقوقهم وطريقة حكمهم وتقرير مصيرهم بأيديهم؟
إن المستفيد الوحيد اليوم من مثل هذا النقاش هو السلطة نفسها التي وضعت هذا القانون وما زالت تحميه وتطبقه، وتذكي النقاش حوله في كل رمضان، وتشجع أصحابها وإعلامها والمقربين منها على مهاجمته، وتساير تخلف المجتمع في تطبيقه.. ما أخشاه هو أن تكون كل هذه المسرحية، وهي تحصيل حاصل، مجرد تلهية للناس عما هو أهم في حياة البشر أي النقاش حول اقتسام السلطة والثروة، وفي هذه فليجتهد المجتهدون. لكنهم كما يقول الشاعر:
أسد علي وفـي الـعـدو أذلة هذا لعمرك فعل مولى الأشأم
التعليقات