في الذكرى السادسة لوفاته، كإنسان، أجدني في غاية التخشع و أنا أتذكر الثورة الكوبرنيكية التي أحدثها الأستاذ الجابري (رحمه الله) في فكري ال...
في الذكرى السادسة لوفاته، كإنسان، أجدني في غاية التخشع و أنا أتذكر الثورة الكوبرنيكية التي أحدثها الأستاذ الجابري (رحمه الله) في فكري الصغير و في نفسي التواقة للاكتشاف و المعرفة .
كان ذلك و أنا أطأ أبواب جامعة المولى إسماعيل طالبا جديدا . لقد حدث كل شيء و أنا أتابع أول محاضرة كان يلقيها علينا استاذ من طينة معرفية و نضالية خاصة هو الأستاذ عبد السلام حيمر السفياني (رحمه الله) حول موضوع "التراث و مناهج تلقيه" .
تابعت المحاضرة بتركيز شديد جدا و توتر فكري لم يكن عقلي الغض قادرا على تحمله، و عند الانتهاء توجهت مباشرة نحو الأستاذ و اقترحت عليه إنجاز عرض حول موضوع (الصراع بين العقل و النقل في الثقافة العربية .. نموذج الغزالي و ابن رشد) نظر إليّ الأستاذ نظرة إشفاق لم أدرك معناها إلا بعد مرور الوقت، و كأنه كان يحدس أني سأرتمي في بحر بلا شطآن و أنا لا أتقن فن السباحة الفكرية و النضالية ! لكنه رغم ذلك قبل الاقتراح و طالبني بتصميم العرض .
هرولت، مثل ذلك الذي عثر على كنز ثمين، إلى مكتبة عتيدة بمدينة مكناس ( مكتبة الجامع الكبير) التي كانت تتوفر على مخطوطات و مشاريع فكرية نفيسة، و كان ذلك اليوم من سنة 2000 بداية اعتكافي الفكري إلى اليوم. كان أول كتاب قرأته بنهم الظمآن ( نحن و التراث) لم أستوعبه في البداية و أعدت الكرة مرارا، ثم تقدمت مثل فارس عثر على مفاتيح المعركة أقرأ بنهم أكبر ( تكوين العقل العربي، بنية العقل العربي، العقل السياسي العربي، العقل الأخلاقي العربي، الخطاب العربي المعاصر ...) قضيت شهورا معتكفا في المكتبة بتوقيت رسمي صباحا و مساء، و نسيت أنني طالب عليه متابعة محاضراته بشكل رسمي في مدرجات الجامعة .
منذ ذلك الحين، ترسخ لدي أن الأستاذ الجابري (رحمه الله) أكبر من مفكر، إنه مدرسة متكاملة في الفكر و التربية و النضال، مدرسة تمتد جذورها في أعماق الحضارة العربية الإسلامية، و تلقي بأغصانها في الفضاء المنهجي و العلمي الحديث.
مع الأستاذ الجابري تعلمت كيف أعبر عن انتمائي الحضاري العربي الإسلامي بلغة/روح علمية بعيدا عن البطانة الوجدانية، تعلمت أن الأصالة خصوصية ابستملوجية و ليست ادعاء إيديولوجيا سلفيا تائها بين فيافي الماضي السحيق.
مع الأستاذ الجابري، تعلمت كيف أعبر عن انتمائي إلى العصر الحديث بلغة/روح علمية بعيدا عن البطانة الوجدانية، تعلمت أن المعاصرة إيمان بثنائية التطور و التقدم من داخل البراديغم الخاص و من منظور رؤية العالم الخاصة، و ليست ادعاء إيديولوجيا سلفيا تائها بين منافي الاغتراب المُقَنَّع.
أردد، مرة أخرى، ما خطه قلمي لحظة وفاتك :
لقد مات الإنسان و ركب المفكر و المناضل و المربي سفينة الخلود .
دمت خالدا في تاريخنا العربي الإسلامي رمزا للنضال و الفكر الحر، إن موت الأجساد سنة الحياة لكن خلود الأفكار بعث و تجدد مستمر للحياة .
إدريس جنداري
*صفحة الكاتب على الفايسبوك
التعليقات