خلال المدة الأخيرة، سمحت لي الظروف بزيارة عدد من الجامعات الكبرى خاصة الغربية منها، ووقفت على معطى ثابت وهو أن ميزانية كل جامعة كبيرة ...
خلال المدة الأخيرة، سمحت لي الظروف بزيارة عدد من الجامعات الكبرى خاصة الغربية منها، ووقفت على معطى ثابت وهو أن ميزانية كل جامعة كبيرة تفوق ميزانية القصر أو رئاسة الحكومة في البلد الذي توجد فيه، الأمر الذي لا يحدث في العالم العربي، حيث مكانة وميزانية القصر أعلى بسنوات ضوئية من ميزانية الجامعة. وهذا يفسر ثنائية التقدم والتخلف والتسلط والديمقراطية.
وعندما تزور جامعة غربية كبرى مثل، أكسفورد وييل وهارفارد وبرينستون والسوربون، تندهش لفخامة المباني التي تضاهي القصور الفخمة، بل قد تتجاوزها، وفي الوقت نفسه تعكس هيبة علمية تستمر في الزمن.
ويقف الإنسان مشدوها أمام تاريخ جامعات من هذا الصنف في خدمة بلدها وفي خدمة الإنسانية، بفضل الإنجازات العلمية التي تحققها في مجالات شتى، منها الطب الذي يمس الحياة البشرية مباشرة. في الوقت ذاته، يتعجب المرء إيجابا من التقاليد السياسية والثقافية والاجتماعية التي رسختها هذه الجامعات، وجعلت منها منارة في مدينتها وبلدها، ومزارا رئيسيا لكل من يقصد مدينة معينة، تضم مثل هذه الجامعات، التي تحولت إلى مأثرة تاريخية شاهدة على الماضي العريق، وهي تعد كذلك منارة للمستقبل، ناطقة بالتقدم المرتقب.
ومنحت بعض الجامعات اسمها للمدينة، بل أن مدنا تطورت حول الجامعة، كما هو الشأن في حالة أكسفورد وكامبريدج وييل وبرينستون مثلا، الجامعة هي المدينة والمدينة هي الجامعة. وتعطي بعض الجامعات شخصية أخرى للمدن، فباريس هي عاصمة الأنوار والترفيه وبرج إيفيل، وهي كذلك منارة العلم، فالسوربون ساهمت في النهضة الأوروبية والإنسانية.
ونظرا للمكانة المشرفة للجامعة في الغرب، فهي تحظى بعناية سياسية ومالية كبيرة. وتفوق ميزانية الجامعات الكبرى عشرات المرات ميزانية قصر الملك أو ميزانية رئاسة الدولة والحكومة. وهكذا، تفوق ميزانية واستثمارات جامعات مثل برينستون وهارفارد ميزانية البيت الأبيض، وميزانية السوربون تفوق ميزانية قصر الرئاسة الفرنسي، وميزانية القصر الملكي البريطاني تبقى أقل ودون ميزانية جامعة كامبردج أو أوكسفورد.
ومن الأمثلة الأخرى، فإن ميزانية جامعة متوسطة مثل كومبلوتينسي في العاصمة مدريد تفوق خمسين مرة ميزانية القصر الملكي الإسباني. وتشكل الأرقام متاهة حقيقية إذا علمنا أن ميزانية الأوقاف المالية والعقارية لدى بعض الجامعات مثل، ييل وهارفارد واستانفورد تفوق الإنتاج القومي لبعض الدول الأفريقية، بل والعربية منها الفقيرة. وعندما ينتقل المرء الى العالم العربي ويسأل عن أحوال الجامعة، سيجد مباني الجامعات عادية للغاية، لا تنم عن هيبة علمية، بل يخال للمرء أن بعض مباني الجامعات مهجورة. ويستحيل بل قد يكون من باب الخيال العلمي مقارنة مباني الجامعات مع القصور الملكية والرئاسية في العالم العربي، حيث يتسابق الحكام العرب في ما بينهم لبناء أحسن وأكبر قصر وكأنهم يريدون جعل هذه القصور أهرامات جديدة ليخلدوا بها أسماءهم في التاريخ، وأي تاريخ!
ولا يمكن المقارنة بين ميزانية قصور الأنظمة الملكية وميزانية الجامعات، إذ تتجاوز ميزانية الأنظمة الملكية والرئاسية منها ميزانية جميع الجامعات في أي بلد عربي. والحديث هنا عن الميزانيات العلنية لهذه الأنظمة، من دون احتساب الميزانيات السرية والصناديق التي تسمى «الصناديق السوداء».
وسمحت الظروف لي بالاطلاع على الميزانية السنوية للبحث العلمي لكلية من الكليات في شمال المغرب، وكانت 1700 دولار فقط، أي 75 مرة أقل من أجر مغنية أو مغن عربي معروف، يشارك في مهرجان من المهرجانات العديدة، التي يحييها المغرب وتحتضنها هذه المدينة التي توجد فيها الكلية المذكورة، والذي لا يقل عن مئة ألف دولار.
لا يقتصر هذا على المغرب، بل يمتد الى دول أخرى وربما قد يكون أسوأ. وهذه المعطيات تعكس المكانة الهامشية التي تحتلها الجامعة العربية في أجندة الحكام العرب.
بدون شك، إذا قمنا بإعداد واستعراض مظاهر التهميش الذي تعيشه وتعاني منه الجامعة العربية مقارنة بالغرب وروسيا والصين، بل وبدول إسلامية مثل تركيا وإندونيسيا، قد نطلب وقتها من مؤسسة غينتس للأرقام القياسية إنشاء فصل أسود خاص بهذا الموضوع.
في مقال سابق في «القدس العربي» حول الجامعة كتبنا أنه عندما يسألونك عن التخلف في العالم العربي، قل اسألوا عن أحوال الجامعة. والآن نضيف تساؤلا آخر: عندما يسألونك عن تقدم دولة وخاصة في العالم العربي، قل: قارن بين ميزانية القصر الملكي أو الرئاسي وميزانية الجامعة، بل وكذلك بين ميزانية البحث العلمي لكلية وأجر مغن أو مغنية في مهرجان عربي تشرف عليه السلطة الحاكمة.
*د. حسين مجدوبي
التعليقات