وفق مقاربة مشيل فوكو، ليست السلطة شيئاً نمتلكه، لكنها روح تسري ويملك كل واحد منا نصيبه من التواطؤ فيها حتى وإن كانت تسحقه، إنها تنتشر ...
وفق مقاربة مشيل فوكو، ليست السلطة شيئاً نمتلكه، لكنها روح تسري ويملك كل واحد منا نصيبه من التواطؤ فيها حتى وإن كانت تسحقه، إنها تنتشر أفقيا وعموديا وتسري في كل مكان، بدءا من مخدع حارس السيارات وانتهاء بمكتب قائد القوات المسلحة، بدءا من منبر خطيب الجمعة وانتهاء بمكتب مستشار الأمن القومي.
لذلك لا يتحقّق تغيير النظام السياسي عبر تغيير الحاكم أو المسؤولين أو طردهم –حتى ولو كان طرد بعض المسؤولين يحمل بعض الإنصاف أحيانا- إنما يتغيّر النظام السياسي بتغيير تلك الرّوح التي تسري في كل الجزئيات والتفاصيل. إنها مهمة صعبة، لكنها المهمة الثورية الفعلية، بدونها تبقى الأمور مجرّد حركات دائرية تدور في حلقة مفرغة.
إن كان منتظراً من المثقف التنويري أن يكون شخصا مزعجا للسلطة، فالتعبير الأدق، أن يكون مزعجا لروح السلطة كما تسري في كل مكان، من القوانين الجنائية إلى تقاليد الزواج. فليس دور المثقف أن يكون معارضا ولا دوره أن يكون مؤيدا، إنه يتموقع دائما بمعزل عن المعارضة والمولاة. ذلك أن أفق المعارضة في الأخير يبقى هو السلطة. وليست هناك معارضة لا تضع السلطة هدفا لها. أما أفق المثقف التنويري فإنه يبقى خارج حسابات السلطة، إنه لا يحرض أحدا على أحد، ولا ينحاز لفريق ضدّ فريق، إنه ناقد للجميع، للدولة والمجتمع، للسلطة والرأي العام، للنخب والجمهور.
درس آخر لفوكو، التغيير عملية لا متناهية لا تبتغي وهم الخلاص، وأحيانا لا يمكننا أن نفعل الكثير لأجل عالم أفضل، لكننا -وكما ينبه فوكو نفسه- لابد وأن نفعل شيئا ما. علينا أن نتصرف بهدوء يوميا في كل التفاصيل، بعيدا عن خرافة عصر ذهبي في الأفق.
الأمر هنا أشبه ما يكون بالثورة الدائمة في فكر تروتسكي، شريطة تحريرها هي الأخرى من عقيدة الخلاص، بحيث لا جنّة في الأفق.
التغيير صيرورة لانهائية كما يرى ألان باديو، وقبله هيدجر ونيتشه وهيراقليطس. لكن، إذا كانت الحياة تميل إلى الصيرورة والتغير والتقلب فإن السلطة بحكم طبيعتها ميالة إلى الثبات، وحين تحقق السلطة مرادها في الثبات فإنها سرعان ما تصبح قوة ضدّ الحياة.
لذلك لم يحدث في أي لحظة من اللحظات أن تطورت فكرة خلاقة من داخل حقل السلطة. وهذا ما يجعل السلطة –حين تكون سلطة حيوية- محتاجة إلى هوامش متحررة منها، وروافد مستقلة عنها، تمنحها مياها متجددة وتجعلها -على الأقل- مكانا صالحا للحياة.
التعليقات