كيف لمن اعتاد على المال السائب كمحور أساسي وقطب يضبط سكناته وحركاته ، ويبرر بقاءه أو فناءه أن يتنصل من الجيوب التي فصلها على مقاس جسده ،...
كيف لمن اعتاد على المال السائب كمحور أساسي وقطب يضبط سكناته وحركاته ، ويبرر بقاءه أو فناءه أن يتنصل من الجيوب التي فصلها على مقاس جسده ، حتى صار عقله وقلبه جيبا غائرا لايريد أن يغيض ماؤه أو ينقص زاده .
هذه العلاقة « الوجدانية » بين الفلس وصاحبه استنفرت أقلام المبدعين في الشرق والغرب.
وأفضل دليل عليها نواح البخيل في مسرحية موليير حين يكتشف سرقة صندوق ذهبه وأمواله، فينخرط في مرثية طويلة يبكي فيها ذاته وينعي حبه المفقود بتعابير تكاد تكون صوفية الأبعاد مادام السارق والبخيل والصندوق كيان واحد لاحياة لأحد منهم دون الآخر.
وقبل موليير بمدة زمنية طويلة رسم الجاحظ العبقري الذي اعتبره معاصرنا خريطة البخل والبخلاء وأبدع في الغوص في تلك العلاقة المرضية بين المال وعبدة الدرهم الذين أغناهم حب السطو على المال عن كافة أنواع الحب الأخرى .
أما قياصرة اليوم فلهم في كل غيمة يصب ماؤها نصيب ، ولهم في كل عرق يتصبب من الجباه حصة ، ومن كل مايزرع غلة وثمارا ، ومن خيرات البحر حسابات بنكية وراء البحار، ومن كل معانات وألم دراهم يسمع رنينها حين تتساقط تباعا في جيوب من لم يبذلوا أي جهد لتحصيلها .ولكل عصر عبدة دراهمه ، فإذا كان بخلاء الجاحظ وموليير يقترون على أنفسهم ويمنعونها من صرف ما تحت أيديهم من ثروات اكتسبوها بطرقهم الخاصة ، فان عبدة درهم هذا العصر لايتصرفون في أموالهم بل في عرق غيرهم ، وبخلهم لايصح على أنفسهم وذويهم والمقربين بل هو بخل في اتجاه واحد يذهب ضحيته من امتدت أيديهم إلى جيوبهم ، مادامت أن السرقة الموصوفة للمال العمومي وأموال البسطاء أصبحت لها تشريعات ومساطير وتحرميات واجتهادات ، تسمى مرة منحا وتعويضات مجزية ومرة ضرائب مباشرة وغير مباشرة ومرة تبرعات «تطوعية» تنتزع انتزاعا – بزز- من الناس الطيبين المستضعفين من طرف حرس السلطة ورقبائها .. وغالبا ماتتم مطالبة الفقراء المسحوقين سحقا بالتضحية و «شد الحزام » من اجل رفعة الوطن ومصلحة البلاد ، فيما يعفى الدوماليون من قبائل «أبي نهب» القدامى والجدد من هذا النوع من التضحيات . وغالبا مايقبل المظلومون بهذا الواقع انطلاقا من قناعتهم بان حب الأوطان من الإيمان، فيما حب المال لذا الآخرين الذين نهبوا خيرات البلاد يعلو ويسمو فوق كل الأوطان، لقناعتهم الشديدة بان المال لاوطن له ولا رائحة بالرغم من ركام القاذورات التي تفوح منه، والتي تزكم أنوف كل من مازالت له القدرة على استعمال حواسه وجوارحه قبل أن يكتسحها غبار الجشع الأعمى .
ولو ظلت جوارحنا على فطرتها فإننا لن نكتفي إزاء عبدة الدرهم بالسؤال : « من أين لكم هذا » ؟ بل سنسائلهم : « من أين ليس لكم هذا » ؟ خصوصا إذا كان مصدر الثروات المشبوهة هو فقر الآخرين حيث يتم امتصاص رحيقه المر حتى أخر قطرة ، مثل ما كان يفعل جباة ضرائب القيصر في العصور القديمة حين يقصدون القرى الفقيرة – ويكشطونها- ويجردون صغار الفلاحين من بهائمهم وغلات حقولهم ومحاصيل حبوبهم ويتركوهم عرضة للجهل والمجاعة والموت المحقق.
أما قياصرة اليوم فلهم في كل غيمة يصب ماؤها نصيب ، ولهم في كل عرق يتصبب من الجباه حصة ، ومن كل مايزرع غلة وثمارا ، ومن خيرات البحر حسابات بنكية وراء البحار، ومن كل معانات وألم دراهم يسمع رنينها حين تتساقط تباعا في جيوب من لم يبذلوا أي جهد لتحصيلها .
*مقالات احمد السنوسي
التعليقات